كل مجزرة جديدة تقودني إلى ضريح مجهول لعمي
في يوم من شهر مارس/ آذار 2015 كنت في غرفتي أعمل خلال نوبة التحرير المسائية في وكالة أنباء محلية، حين وردنا خبر عاجل عن تسريب 50 ألف صورة لـ11 ألف معتقل سوري قُتلوا تحت التعذيب في سجون الأسد.
في الصالون، الغرفة الملاصقة لغرفتي، كان خالي قد جاءنا على غير عادته، وجلس مع والديّ على انفراد، كان غريباً، لكن ليس بالقدر الكافي لأن نقلق، حتى سمعت صوت صرخة، أو دوي شيء ما، إلى الآن لا أعرف ما كان ذلك الصوت.
ركضت إلى الصالون، كانت والدتي غارقة بدموعها، ودموع أبي اختلطت بصدمته، نعم بالتأكيد كان الصوت الذي دوى في أذني هو دموع والدي من قهر تلاشت أمامه صلابة أبي. كان خالي يحمل خبراً موت عمي تحت التعذيب، تعرف عليه خالي من خلال الصور المسربة، نفسها تلك الصور حررتها أنا في خبر عاجل.
لم أستوعب ثقل الخبر، أذكر فقط أن دواراً أصابني ومشاهد متداخلة لنحيب أمي وبكاء أخواتي الصغيرات، عمو مات، اي عمو مات، استشهد تحت التعذيب، وين دفنوه، مشاهد وأصوات من ذلك الصالون صارت ضباباً داخل رأسي.
أمام كل صورة ومشاهد للمذابح، تبكي وتحرر الخبر أو الفيديو في اللحظة نفسها، لم يعد هناك متسع لوقت أطول من أجل استيعاب حجم المأساة
عدت إلى غرفتي، بحثت عن صورة جليلة وجميلة لعمي، تأملتها، هدهدت على قلبي بأن عمو لا يزال حياً، وكل تلك الأخبار محض خرافة، ثم عدت إلى اللابتوب ودفنت نفسي فيه، حررت تقريراً كاملاً عن ضحايا التعذيب في سجون نظام بشار الأسد، عشت انفصالاً عن ذاتي، بداخلي طفلة متعلقة بأمل كاذب، فيما الثانية أخطرت زملاءها بالخبر الفاجع وتلقت التعازي.
مرت أشهر لا أذكر عددها بالضبط، قبل أن أعلن الحداد على عمي، وأبكي عليه بحرقة للمرة الأولى، حداداً ما زلت فيه إلى الآن.
منذ 2015 إلى الآن وأنا أعيش هذا الحداد، فكل خبر أو صورة أو فيديو عن ضحايا سورية والمجازر التي تحصل فيها تحيلني إلى اللحظة الأولى لتلقينا خبر مقتل عمي، الفرق هو أن الطفلة نضجت.
أمام كل صورة ومشاهد للمذابح، تبكي وتحرر الخبر أو الفيديو في اللحظة نفسها، لم يعد هناك متسع لوقت أطول من أجل استيعاب حجم المأساة.
مؤخراً، تم الكشف عن فيديو مجزرة التضامن، نيسان 2013، بشاعة المشاهد، ورخص القتلة ووضاعتهم في التعامل مع الضحايا كتسلية لهم، كان فظيعاً إلى الحد الذي رأيت بوجوه كل الضحايا معصوبي الأعين وجه عمي خالد عليان، هو الآخر دفنوه في مقبرة جماعية، لا نعلم مكانها، ولا الطريقة التي وضعوه فيها في قبره، ولا أريد التفكير إطلاقاً.
وكلما اقترب عقلي من محاولة تصوير طريقة قتله ودفنه، أعود فوراً لتأمل صورته وهو حي بيننا، بابتسامته المشرقة، لكن هذه الجرائم التي تظهر كل فترة إلى العلن، لتعرية العالم بأسره أمام صمتهم، تعيدنا سيرتنا الأولى في النحيب والبكاء على من فقدناهم، ومهما كبحت جماح تخيلاتي حول الفظاعة التي عاشها عمي، وبقية الضحايا، أتذكر بمرارة أنه لا حدود لجرائم السفاح ولإمعانه في التمثيل ببقايانا.
الصوت وحده، صوت الضحايا في فيديو مجزرة التضامن، وهم يركضون إلى الحفرة تنفيذاً لأوامر قاتلهم، كان مرعباً، صوت الرصاص يخترق جسد الضحايا وهم يهوون في حفرة، مترافقاً مع ضحكات الضابط "أمجد يوسف" منتشياً بكثرة ضحاياه، كل هذه التفاصيل في الفيديو تجعلني أفكر في الحظيرة، وربما في المزبلة التي كنا ندعوها وطناً، في مكان موت المواطن فيه هو لعبة لجنود تشعرهم هذه المجازر بالفخر، وبالاعتزاز لما يقدمونه لقائد الوطن في سورية الأسد، ورغم كل هذا لا تزال تلك الحظيرة تعنيني فلا شيء أريده أكثر من زيارة القبر المجهول لعمي.
انتهى وقت النحيب، أعود الآن لتحرير فيديو المجزرة..