كلبتنا مثقفة
الحال ضيق، هل يستحق الفصل أن أتحمل مصاريف المواصلات؟ سألت نفسي قبل أن أسجل، هو فصل دراسي تطوعي للنساء المهاجرات لإجراء بحث اجتماعي، إلا أن الفصل كله والبحث أيضا باللغة العربية، أي لا مجال لتعلم لغة أجنبية..
لكن لا بد لي أن أتعلم شيئا جديدا، كيف لا؟ والبحث بعنوان "الدور الإيجابي للمرأة المهاجرة في المجتمع المضيف" يتم ضمن مشروع مشترك بين مركز الجندر للقضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة وقسم تعزيز المساواة بين الجنسين في جامعة ألمانية عريقة. والأهم أن الباحثة المشرفة على البحث تدير مشروعا لتمكين النساء المهاجرات في منظمة لمكافحة العنف ضد المرأة. حسبتها، الله ما يقطع وسجلت.
في الجلسة الأولى الممتدة ثلاث ساعات كنا جالسات على شكل نصف حلقة، وقفت المحاضرة أمامنا وعرفت بنفسها بأنها حاصلة على ماجستير في علم الاجتماع من جامعة سورية وراحت تحكي عن إنجازاتها الأكاديمية الرفيعة وعن مشاريعها ونضالاتها في المنظمات الحقوقية لدعم النساء والدفاع عنهن سواء في سورية أو ألمانيا. ولم يكد ثلث ساعة ينقضي على محاضرتها حتى قالت من اللاشيء، وهي تدير رأسها دورة شبه كاملة في محاولة لرؤية الجميع، "قد لا يتفق البعض معي"، حدقت بدقة أكثر، رفعت كتفيها حتى صارت بلا رقبة، وراحت تتقدم ببطء وكأنها تتهيأ للانقضاض على الفريسة وتابعت "لكني أجد أن المرأة عدوة المرأة"، وكشرت.
قلت لنفسي إن كلبتنا غير مثقفة، علينا أن نرسلها الى الأستاذة الجامعية، علها تفلح في تعليمها النباح على النساء!
لم تجب السيدات، بدا لي أنهن لم يأخذنها على محمل الجد. ساد الصمت وهلة إلى أن قطعته المرأة الجالسة بقربي، إذ تنحنحت على كرسيها. التفت فوجدتها عجوزا ضئيلة الحجم تبدو عليها البساطة، ولمحت المرأة الخمسينية قربها وقد نظرت إليها لحظة ثم عادت تنظر الى الأمام. كانت التفاتتها الخاطفة كافية لتكشف لي حنية في عينيها الزرقاوين ورضى في وجهها وبشاشة مع أنها لم تبتسم. قلت لنفسي لعلها، بعد ما قالته المشرفة عن النساء، تذكرت أمها أو بناتها فأشرقت.
على أي حال ارتبكت الباحثة لما أتاها الصمت جوابا، كأنها كانت تترقب تأييدا مطلقا لما قالته! بدا عليها الغضب وخيبة الأمل اللذان يصيبان حيوانا جائعا فشل في الصيد، فراح يراقب فريسته بـ غل وقد فرت. صارت تتكلم وتتحرك بتوتر وعصبية، ولم تهدأ إلا بعد أن انقضت على صبية دخلت متأخرة، رغم أن البنت اعتذرت وفسرت سبب تأخرها بأن المدرسة في دورة اللغة، التي هي ملزمة بحضورها، لم تسمح لها بمغادرة الدرس قبل انتهاء الوقت. فما كان من الباحثة المتفاخرة بالتزامها بالمواعيد إلا أن هاجمتها ورفعت صوتها عليها ونهرتها بطريقة عسكرية. يبدو أنها حقا أخافتها فلم تعد الفتاة إلى الفصل مرة أخرى.
عرفت فيما بعد أن المرأة المشرقة لم تتذكر بناتها فهي عازبة، لكنها التفتت تطمئن على أختها الكبرى المتخلفة عقليا، التي تكفلت برعايتها منذ وفاة والديهما، والتي لم تجد لها اليوم من يجالسها، العجوز الجالسة بقربي لما تنحنحت!
بعد انتهاء الفصل أدركت أن معرفة هؤلاء النساء العظيمات المتفانيات من خلال الفصل الدراسي وحدها من كانت تستحق الوقت والمال، عدا ذلك فإني أظن أن منظمي الفصل مدينون للمشاركات بمصاريف المواصلات على الأقل.
تذكرت هذا الموقف لاحقا بعدما ولدت كلبتنا. أليكسا هي كلبة أخي، رباها مذ كان عمرها شهرين، وتصادف حصوله عليها مع إقامته بضعة أشهر لدى صديق. بيت الصديق كبير متعدد الغرف، كثيرا ما كان يجتمع ويبات فيه حوالي 15 شابا. وهي كلبة محبة جدا، تألف كل الناس وحتى الغرباء. لكن الأمر تغير بعد أن ولدت، فأما الأشخاص الذين تعرفهم مسبقا، فقد ظلت تعشقهم وتفرح بقدومهم، وأما الغرباء..
فقد زار أخي صديق لا تعرفه من قبل، خبأت الكلبة جراءها تحت السرير وراحت تنبح عليه لتخويفه إلى أن اضطرا إلى مغادرة المنزل، كي يتمكنا من سماع بعضهما البعض.
لكنها لما زارت أخي ثلاث صديقات، استقبلتهن أحر استقبال وراحت تقفز كعادتها فرحا ولعبا، وتركتهن يحملن جراءها ويلعبن معها، مع أنهن كلهن غريبات عنها، ولم تلتق بهن قط!
قلت لنفسي إن كلبتنا غير مثقفة، علينا أن نرسلها الى الأستاذة الجامعية، علها تفلح في تعليمها النباح على النساء!