كريسماس إسرائيلي
إنه موسم الكليشيهات. ها هي تتوالد من تكرار المشهد الفلسطيني الموجع، تكرار الوصف ومحاولات البلاغة، الاستنجاد بالتشابيه لتبليغ المعنى، وتكرار المشاعر حتى الفراغ من المعنى، من التأثير.
من الشاشات والإذاعات والصحف والمواقع الإخبارية، تولد كليشيهات جديدة. منها السياسي ومنها الأيديولوجي ومنها الديني. كليشيهات من كل الأنواع والأجناس تزدحم محاولة التواصل معنا كأبكم يبذل جهداً شديداً لإيصال رسالته، فلا يفلح.
وللموسم أيضاً كليشيهاته: نهاية العام. فالميلاد على الأبواب. ومكان الحدث منذ شهور هو أرض فلسطين، مسقط رأس المسيح ومكان استشهاده وجلجلته. والمجرم؟ هو ذاته، إن كان اسمه الرومان أو الإسرائيليين.
ومع أنه من النادر أن تعود الحياة الى الكليشيه المستهلكة، خصوصا تلك المبتذلة بمعنى السهولة والشيوع، إلا أنها هنا، في سياق حدث غزة، تغادر وصفها ذاك بقوة الواقع. تعود الروح إليها فتبعث بمعناها الأصلي كما لو كانت جملة طازجة، تقال للمرة الأولى.
حلّ عيد الميلاد، وها هي الصورة المتوقعة من الناشطين تنتشر على مواقع التواصل: طفل وليد في وضعية الأيقونة المعروفة لميلاد السيد المسيح، لكنه ملفوف بكوفية فلسطينية وقد بات مهده بدل القش في مزود، ركاما من أنقاض غزة. كليشيه متوقع صحيح. لكنه صحيح.
حلّ عيد الميلاد، لكنه حلّ للمفارقة جمعة عظيمة وأسبوع آلام تمدد أسابيع كثيرة دون نهاية سعيدة يحل فيها الفصح أو القيامة. أما الأمهات الحزينات، أو بالأحرى المتبقيات منهن على قيد الحياة، فلا يعرفن عمن يحزنّ بالضبط في البيوت التي فرغت من أهلها. البيوت التي أبيدت عائلاتها ومسحت من السجل المدني. البيوت التي لم تعد موجودة أصلاً.
جاء الميلاد وما من أطفال تبقوا في غزة ليتمنوا، فيأتيهم العيد، إن كانوا عاقلين، بتحقيق أمنياتهم، بأغراض يدسها الأهل المتنكرون بثياب ذلك الشيخ البدين الأحمر المستورد، تحت المخدات أو تحت شجرة مزينة بكل ما يبرق ويعد بالفرح. أصلاً لم يتبق شجر. هذا أيضاً كليشيه لكنه صحيح.
جاء العيد، بصفاقة أكاد أقول. كأن شيئاً لم يكن. أو كأن هذه الأرض اعتادت على صلب أهلها بأيدي المحتلين. أكانوا من الرومان أم الإسرائيليين. جاء الميلاد، لكن غزة الذبيحة كانت في استقباله. كيف لهذا العيد الوقح أن يأتي صفر اليدين هكذا، من دون مخلص؟
أي مخلص لهذه الأرض مبقورة الأحشاء، مبتورة الأطراف بشفرات القنابل المتطورة، تبيعها إسرائيل مع فيديو للتدليل على فعاليتها، يصوّر ما مزقته من أجساد ضحاياها الغزيين العزل؟ أي مخلص لهذه الأرض المدمرة بكبريت ونار وفوسفور وملح وشرّ؟
طوال أسابيع عملت آلة القتل بأمر الحاكم المحتل، وتماماً كما كان في ذلك الزمان، أمر الحاكم الخائف بقتل كل الأطفال الذين ولدوا على تلك الأرض في ليلة غزة الطويلة خوفا من نبوءة المقاومة: أن يكون المخلص، المقاوم للظلم بلحمه العاري، بينهم. وهو لا بد سيكون. وهذا أيضا كليشيه لكنه صحيح.
يأبى الإسرائيليون أن يمر العيد دون هدية للمسيحيين الفلسطينيين والغزيين خصوصاً: ها هم يدمرون دير اللاتين ويحاصرون بيت راهبات الأم تيريزا في كنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية ويقتلون قنصاً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى أماً وابنتها كانتا داخل حرم الكنيسة حين استشهدتا، إضافة لاستشهاد 10 آخرين كون المكان كان يؤوي أكثر من ستمائة نازح غزي.
جاء العيد، بصفاقة أكاد أقول. كأن شيئاً لم يكن. أو كأن هذه الأرض اعتادت على صلب أهلها بأيد المحتلين. أكانوا من الرومان أم الإسرائيليين
يستنكر البابا فرنسيس في بيان ما حصل للمرأتين اللتين ذكر اسميهما: ناهدة خليل أنطون وابنتها سمر. لسبب ما أفرح بذكر الأسماء: شهيدتان ما زالتا تحتفظان بإسميهما في كتلة ضخمة مجهولة المعالم من الشهداء.
لكن موقف البابا يبدو محيراً. تارة يدين قصف الكنيسة "حيث لا يوجد إرهابيون" حسب لغة بيانه، وتارة يصف القصف نفسه أنه إرهاب. أبانا: قف في مكان واضح ليستطيع الرب أن يراك، ويحاسبك.
قبل ذلك بيوم، قصفت الطائرات الإسرائيلية جمعية الشبان المسيحية في غزة، التي كانت تؤوي 300 نازح قتل ثمانية منهم، وفي 19 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، تعمدت قوات الاحتلال الإسرائيلي استهداف كنيسة الروم الأرثوذكس وسط مدينة غزة، التي كانت بدورها تؤوي نازحين، ما أسفر في حينها عن استشهاد 18 فلسطينياً. لا، لا أعرف إن كانوا مسيحيين أم مسلمين. وهل هذا مهم؟
هذا لا يكفي؟ فليكن أكثر. فالموسم موسم هدايا وإن كانت مسمومة: يتقدم نواب يهود في الكنيست بمشروع قانون يجرم التبشير المسيحي في إسرائيل. لا بل يعاقب بالسجن عاماً ان كان المستهدف بالتبشير يهودياً قاصراً!
تتحرى عن الخبر فيتبين أنّها ليست المرة الأولى التي يتقدم فيها هؤلاء بمثل مشروع القانون هذا، ضاربين عرض الحائط بكل ما قد يشعر به من خيانة داعمهم الأكبر: الإنجيليين الصهاينة. أولئك الذين يؤمنون بإن قيام إسرائيل ووجودها، هو درب ضروري لكي تتحقق نبوءة قدوم مسيحهم. وهو مسيح من نوع خاص: قوي، مغرور، منتقم، جبار سيحكم العالم حسب زعمهم لألف عام. مسيح بوجه قناع "هالووين" مخيف وشرس، زعيم عصابة من المجرمين البدائيين.
تتأمل الجملة الغريبة: إنجيليين صهاينة؟ كيف تجتمع المفردتان في جملة واحدة مفيدة؟ هذا كريسماس إسرائيلي بامتياز.
تثور ثائرة الإنجيليين الصهاينة للخبر، فيطمئنهم نتنياهو بأن هذا القانون لن يمر. يشكرونه، ويعلنون تجديد البيعة للعهد الإسرائيلي الذي يغدقون عليه المال والسلاح والدعم السياسي والإعلامي والاقتصادي.
هل هي صدفة أنهم يملكون كل تلك القوة؟ وأنهم في كل مكان ومركز قرار؟ هذه نظرية مؤامرة؟ ربما، لكنها صحيحة.
تخرج من البيت لتلهي عقلك، تريحه. تفاجئ بالعالم الخارجي كما لو كان كوكباً آخر: الزينة معلقة ومضاءة في فضاءات الشوارع، وعلى أشجار الرصيف. وموسيقى تراتيل الميلاد تصدح من الدكاكين والمولات حيث تسرح العائلات مع أطفالها بالرغم من الضائقة الاقتصادية. تقول في نفسك: لا تلم الناس، فهم بحاجة لرؤية أطفالهم فرحين. فليفرح من يستطيع الى ذلك سبيلاً في هذه الجغرافيا المنكوبة.
لكن بيت لحم والقدس وغزة والناصرة لا يمكن أن تفرح.
تصلك رسالة المونسينيور عطالله حنا التي يعلن فيها، باسم كنائس القدس وفلسطين إلغاء كل مظاهر الاحتفالات بمولد السيد المسيح إن كانت وفق التقويم الغربي أو الشرقي، وإن تقتصر الاحتفالات على الصلوات في الكنائس.
يقول المطران الفلسطيني "بالنسبة لنا، الأمر لا يتعلق فقط بإعلان إلغاء احتفالات عيد الميلاد، بل بتذكير جميع السلطات الدينية المسيحية في العالم، وخاصة في العالم الغربي، كل أولئك الذين يستعدون للاحتفال بعيد الميلاد تحت بريق الأشجار المزخرفة: بأن أرض المهد، فلسطين تنزف، وإنها هي بنفسها محرومة من الاحتفال".
يلفت حنا إلى أنّ "البعض يقول إن المسيحيين ألغوا احتفالات عيد الميلاد تضامنا مع غزة. هذا غير ذي صلة فنحن كمسيحيين فلسطينيين لا نتضامن مع غزة. فهذه دماؤنا التي تسيل هناك، وهذه عائلاتنا ومعاناتنا، وهذا شعبنا".
لا هذا ليس كليشيه.
يضيف الراهب المناضل "لا نطلب منكم عدم الاحتفال بعيد الميلاد. ولكن تذكروا فلسطين، تذكروا غزة، تذكروا بيت لحم، وصلّوا من أجلهم".
لا أعرف بم يفيد أن يتذكر المحتفلون غزة دون التضامن معها ولو بالامتناع عن الاحتفال. هل من أجل محاسبة النفس لعجزها كما في حالتنا؟ أم للتأمل في أسباب ذلك والتحرك للتغيير أخيراً، سيكون فعل التذكر مفيداً؟
غير ذلك؟ ستكون الدعوة مجرد كليشيه.
أمّا نحن، فسندعو لتكون قيامة غزة وفلسطين في نهاية هذا النفق الطويل الذي حفره العدو منذ 75عاماً أو أكثر، وحولته غزة سبيلاً للحياة والصمود والتحرير.
وهذا يصلح ليكون كليشيه أيضاً. لكنه، كما رأيتم، صحيح. أليس كذلك؟