كراهية الذات: من السينما إلى الفلسفة

27 يوليو 2024
+ الخط -

 

في عام 1962، أصدر المخرج الفرنسيّ كريس ماركر فيلمه الوثائقيّ الشهير "سانسولَي" (بدون شمس)، الذي يتناول فيه تأمّلاتٍ عميقةً حول الذاكرة والعزلة في مجتمعاتٍ مختلفة. يتمحور الفيلم حول رسائل فيديو مسجّلة من مصوّرٍ متنقّل، يتجوّل بين أماكن مختلفة من العالم، وينقل مشاهدات وانطباعات عن الحياة اليوميّة للناس، متسائلًا عن معنى الوجود والمعاناة البشريّة.

في إحدى الرسائل، يتحدّث المصوّر عن امرأةٍ يابانيّةٍ تعمل في محطّة قطارٍ مكتظّة في طوكيو. رغم أنّها تبدو مشغولةً للغاية بعملها، إلّا أنّ عينيها تحملان نظرة تعبٍ وإحباط، وكأنّها تعيش حياةً روتينيّةً تخلو من الفرح أو الأمل. يعبّر المصوّر عن تعاطفه مع هذه المرأة، ويقول: "هي ليست وحدها. هناك ملايين مثلها حول العالم، يعيشون حياةً خاليةً من العاطفة، مُنهمكين في روتينٍ يوميٍّ لا ينتهي، ممّا يولّد لديهم شعورًا عميقًا بالعزلة وكراهية الذات."

على الجانب الآخر من العالم، في فرنسا، عاش الفيلسوف والطبيب النفسيّ إميل سيوران، الذي اشتهر بتأمّلاته الفلسفيّة حول البؤس وكراهية الذات. في أحد كتبه، "اعترافات ومقالات"، يتحدّث سيوران عن تجربة شخصٍ يكره ذاته، واصفًا إيّاه بأنّه "ضحيّة لدائرةٍ مفرغةٍ من الإحباط والانعزال"، ومضيفًا أنّ هذا الشخص يرى في كلّ نجاحٍ للآخرين تهديدًا له، ممّا يزيد من كراهيته للذات والآخرين.

وفقًا لسيوران، فإنّ كراهية الذات تنشأ غالبًا من تجارب الفشل المتكرّرة، ومن المقارنة المستمرّة مع الآخرين. يرى هؤلاء الأشخاص أنّهم ليسوا جديرين بالحبّ أو التقدير، فيحاولون تعويض ذلك بالتوجّه نحو الكمال المظهريّ أو المهنيّ، رغم أنّ هذا لا يحقّق لهم السعادة. ينتهي بهم الأمر غالبًا بالشعور بالعزلة وعدم الرضا، ممّا يجعلهم أكثر عرضةً للإصابة باضطراباتٍ نفسيّةٍ مثل الاكتئاب والقلق.

يلفت سيوران الانتباه إلى أهمّيّة القبول الذاتيّ والتصالح مع النفس خطوةً أولى نحو التغلّب على مشاعر الكراهية الداخليّة

إنّ كراهية الذات قد تبدو نهايةً محتّمةً للبعض، إلّا أنّ هناك سبلًا للخروج من هذه الدائرة المفرغة. يلفت سيوران الانتباه إلى أهمّيّة القبول الذاتيّ والتصالح مع النفس خطوةً أولى نحو التغلّب على مشاعر الكراهية الداخليّة. يشير إلى أنّ الاعتراف بالضعف الشخصيّ وتقبّله يمكن أن يفتح الباب أمام تجربةٍ جديدةٍ للحياة، حيث يمكن للمرء أن يبدأ في تقدير ذاته بعيدًا عن المقارنات السلبيّة أو السعي المحموم لتحقيق الكمال.

في السياق ذاته، يعرض فيلم ماركر العديد من القصص التي تسلّط الضوء على كيفيّة تعامل الأفراد مع شعورهم بالعزلة وكراهية الذات. فبينما تقدّم بعض القصص أملًا من خلال اكتشاف الذات والتواصل الإنسانيّ، تعكس أخرى المظاهر المظلمة لهذا الشعور، حيث يقضي الناس حياتهم في البحث عن معنًى وهدفٍ بعيدين عن متناول أيديهم.

يشدّد الفيلم على أنّ الشعور بالانفصال ليس مسألةً فرديّةً فحسب، بل هو جزءٌ من حالةٍ جماعيّةٍ تتقاطع فيها العزلة وكراهية الذات مع الفقر الثقافيّ والاجتماعيّ. من هنا، يصبح من الضروريّ البحث عن طرقٍ تعزّز التواصل والاندماج بين الأفراد، وتخلق بيئاتٍ تدعم الصحّة النفسيّة والرفاهية.

سواء من خلال تأمّلات سيوران الفلسفيّة أو مشاهدات فيلم "سانسولَي"، نجد دعوةً قويّةً للتفكير في كيفيّة معالجة قضايا كراهية الذات والعزلة. تسلّط هذه الأعمال الضوء على الحاجة إلى فهمٍ أعمق لمشاكل الذات البشريّة، وتعزّز أهمّيّة التواصل والتعاطف كأسسٍ لتجاوز الألم الشخصيّ. إذا تمكّن الأفراد من مواجهة كراهيتهم الذاتيّة، وتعلّم تقبّل أنفسهم، فسيمكّنهم ذلك من بناء علاقاتٍ أكثر صحّةً وسعادةً مع الآخرين، وفتح أبوابٍ جديدةٍ لحياةٍ مليئةٍ بالأمل والمعنى.