كتابة بيضاء
عبد الحفيظ العمري
ما الذي تكتبهُ في هذا العصر المشحون بكل ألوان الماضي المستيقظ من سباته؟
ذلك الماضي القريب أو البعيد على السواء، لا فرق!
ماضٍ استحضرَ كلَّ أدواته الممكنة والمحدَّثة تكنولوجياً، في مفارقة تعصفُ بكل شيء يَمتُّ إليك بصلة مع هذا العصر.
لكن – لحظة - أي عصر؟
إنه عصر الجنون الطافح حتى الحواف.
عصرٌ تغوّل فيه الإنسانُ على أخيه الإنسان بما امتلك من أدوات (حضارية)، وصارت أدخنة الحرائق تتصاعد من كل بقعة جغرافية تقريباً (خصوصاً في الوطن العربي الكسير!)
وأنت في هذا الأتون ليس لك من عصرك المشتعل إلا الكوارث واللافتات!
ومن غرائب الأمور أنك في حين تسمع عن الدراسات المستقبلية Future studies وعلم المستقبليات Futurology، تجد نفسك تتقهقر إلى الماضي الذي تم استحضاره؛ ذلك الماضي الذي لو حلّلتهُ - لوجدته ماضياً / تاريخاً يجرفُ الأرض / الجغرافية من تحت قدميك، فتصبح شبه منسيّ في جغرافية منسية أو مفقودة وسط حرائق ما تكاد تُخمد حتى تشتعل من جديد.
وهناك تحت أنقاض هذا الركام يلاحقك سؤال: ما الذي تكتب؟
(هذا إن بقيت لك رغبة في الكتابة!)
وكأن هذا هو سؤال الشاعر أحمد مطر نفسه عندما قال:
"كيفَ يَصطادُ الفتى عُصفورَهُ
في الغابةِ المُشتعِلةْ؟
كيفَ يرعى وردَةً
وَسْطَ رُكامِ المزبَلةْ؟
الأسى لا حَدَّ لهْ
والفَتى لا حَولَ لَهْ".
الكتابة صدى النفس، فكيف بنفسٍ تعيش في وسط الركام؟
لا أظنها ستكون إلا شاكية باكية، حتى تصبحَ صفحتُها المسطورة حائطَ مبكى لعرض الهموم والغموم، أو متذمّرةً على حالها وما آلت إليه في عصر الجنون هذا!
أو تلوذ بالصمت حتى يطويها النسيان!
من غرائب الأمور أنك في حين تسمع عن الدراسات المستقبلية Future studies وعلم المستقبليات Futurology، تجد نفسك تتقهقر إلى الماضي الذي تم استحضاره
أظن أن أحاديث العويل والبكاء على اللبن المراق لا قيمة لها، بل تبدو جلداً للنفس لا غير.
أما أحاديث "الهروب" من الحريق إلى الصمت، ما هي إلا ضرب من ضروب مغالطة تلك النفس لذاتها، وقد مُنيت بشيطان الكتابة يجري بين يديها!
إذن فماذا ستكتب؟
هل ستكتب كتابةً بيضاء، ليست لها علاقةٌ بهذهِ الدنيا ولا بالآخرة،
أم ستكتب بلا كتابةٍ؟ ليُقال لها: هذا هو المطلوب!
هناك قصيدة للشاعر أحمد مطر بعنوان "مبادئ الكتابة العربية"، صوّرت حال الكتابة في زمنٍ كزمننا الراهن، يقول فيها:
"اكتبْ كما تشاء
بشرط أن لا تتعاطى ورقاً
أو قلماً أو محبرة
أو خبراً أو فكرةً
أو همسةً أو خاطرة
تلك أمورٌ قذرة
والكاتبُ الموهوب
هو الذي يغسلُ منها يدَهُ
ويعتني بجودةِ الأسلوب!"
ثم يستمر الشاعر أحمد مطر في التهكم وإسداء النصائح (الخرافية) للكتابة في هذا الزمن!
فلا نستغرب من نصائحه، لأننا في زمن الجنون؛ حيث صارت أصدقَ نصيحةٍ فيه:
"إياك أن تنتقدَ الروثَ، فقد تؤذي شعورَ البقرة"!
وأخيراً:
بلا صِفة
تعيشُ وسْطَ العاصفة
مطوَّحَاً ذاتَ اليمين مرةً
ذاتَ الشمال تارةً
وتارةً مناصفة!
والحالُ قد حالت بهِ
هذي الظروفُ القاصفة
منْ أنت؟
وجهٌ مُنكَرٌ
هويةٌ مطموسةٌ
وجثةٌ هامت بكلِّ الأرصفة!
***