قيس سعيد وعقدة الرجل القوي
بدا صادماً للكثيرين هذا الزخم الذي اكتسبه مشروع قيس سعيد الفردي والشعبوي حتى ضمن الطبقات الديمقراطية التونسية، ولو تأمّلنا لوجدنا أن شيئاً مشابهاً حصل في صعود السيسي وقبله عبد الناصر أيضاً..
جزء من هذه الظاهرة يكمن في جاذبية "الرجل القوي" الذي يبدو في المخيلة العامة أنه الذي يتجاوز النخب السياسية والحزبية ويتجاوز الأطر البرلمانية بل يتجاوز القانون والدولة نفسها، كي يحقق الاستقرار ويضمن الإنجاز.
جاذبية الرجل القوي تزداد حين يرهق المواطن العادي من الاستقطابات السياسية والحوارات البرلمانية التي تبدو بلا نهاية، والتي لا يرى منها إنجازاً واضحاً، بل ربما يرى فيها تعطيلاً للإنجاز عبر دوامة من البيروقراطية والمعيقات الشكلية والتفاصيل القانونية وغيرها.
يأتي الرجل القوي ليكون كائناً سياسياً متجاوزاً كل هذه الأطر والمؤسسات، ويندفع عبر شعبوية واضحة وفجة في مهاجمة القوى السياسية الموجودة، كالبرلمان والأحزاب والإعلام والقضاء وغيره، وهي ليست ظاهرة شرقية كما قد يتصور البعض، بل ظاهرة عالمية تجلت في هيمنة ترامب على الحياة السياسية اليمينية في أميركا، عبر زخم شعبوي قام بتصويره على أنه البطل القادم من خارج السياسة المؤسساتية الفاسدة المعقدة، جاء متعالياً عليها منزهاً عن "أوساخها" ليدير الدفة إلى جهة إنجاز المهمة بصفته الفردية القوية.
لو نظرنا لحقيقة أن صعوده جاء بعد 8 سنوات من حكم الليبراليين تحت قيادة أول رئيس أسود لفهمنا أكثر كيف كان صعوده ردة فعل شعبوية تريد أن يتقدم الرجل القوي الذي لا تقيده القيود المعتادة، ولا حتى الالتزام باللغة السياسية الحصيفة political correctness.
سرعان ما تنكمش الآمال بطبيعة الحال ويصبح اسم "الديمقراطية" مرتبطاً ببطء الإنجاز وكثرة العثرات والثغرات وقلة الحسم في أي اتجاه
من المثير أن تونس قد أبدت توجهاً شعبوياً من قبل الانقلاب المصغر الذي نفذه سعيد العام المنصرم، ففي كتابه عن الشعبوية (2019) أورد عزمي بشارة عدة إحصائيات تظهر التوجهات الشعبوية في تونس بالأرقام (مثل الانخفاض الشديد في الثقة بالبرلمان وبالأحزاب وتراجع التأييد للديمقراطية وتراجع المشاركة في الانتخابات)، ولكن أحداً لم ينتبه لهذه الإحصائيات، ولم نستشعر خطر هذا الصعود الشعبوي إلا حين استيقظنا على الخبر الغريب بسيطرة قيس سعيد على الدولة واختصارها في شخصه، والأغرب كان تأييد الكثير من الديمقراطيين التونسيين له، وتصويرهم إياه كالرجل المنقذ الذي سيحقق الأماني بعد عرقلتها طويلاً من قبل الأحزاب والبرلمان الغارق في المماحكات والمنازعات الحزبية.
في الانتخابات الرئاسية التونسية ظهر "المزاج الشعبوي بوضوح"، كما لاحظ بشارة، خصوصاً أن الفائزين بالجولة الأولى جاءا من خارج الأحزاب المعروفة، وبلا برنامج سياسي واضح، بل نجحا عبر التواصل المباشر مع الجمهور، وبدا قيس سعيد وقتها أنه يمثل "نقيض السياسي الحزبي، ونقيض رجل الأعمال. وكان التركيز على مسلكه الشخصي و(نظافة اليدين)".
افتتح الفقيه القانوني النازي كتابه الشهير "اللاهوت السياسي" بعبارة تختصر النظرية الشعبوية للحاكم القوي: "الحاكم السيادي هو الذي يقرر في الحالات الاستثنائية"، وقد استعملت هذه التنظيرات لصعود الزعيم/الفوهرر أدولف هتلر، الرجل القوي الذي يعمل فوق القانون نفسه، ولم يكن غريباً أن يؤيد شميت إجراءات هتلر الاستثنائية، حتى العنيفة والدموية، مثل حملة التصفية التي قادها ضد خصومه داخل الحزب النازي في "ليلة السكاكين الطويلة"، فالرجل القوي يتصرف ويحسم فوق القانون، أو بتعبير شميت "ما يميز الاستثناء هو أساساً السلطة غير المحدودة، ما يعني تعليق النظام القائم بأكمله. وفي مثل هذه الحالة، من الواضح أن الدولة تستمر، في حين يتراجع القانون".
الديمقراطية البرلمانية والنقاش التداولي والانضباط الإجرائي والتنافس الحزبي، كلها أمور قد تكون منفرة بشدة للمواطن العادي، خصوصاً في حالات الاستقطاب الحزبي والجمود السياسي وحالات الاستثناء والطوارئ الحقيقية أو المتوهمة، ينظر المواطن للمؤسسات التقليدية نظرة ازدراء على أنها عاجزة ومنفلتة، ولا تهمها سوى مصالحها الخاصة، ومن هنا تأتي شهوة الرجل القوي الذي يحسم الصراع وينهي هذا التنوع المربك والمرهق في الاختيارات والمسارات الممكنة.
يزداد الخطر في الديمقراطيات الوليدة، حيث لم يعتد المواطنون على "التمييز بين الحكومة والنظام السياسي، ما ينذر بتحول النقمة على الحكومة إلى موقف من النظام السياسي"، كما قال بشارة، مؤكداً أن من أسباب النقمة ارتفاع سقف التوقعات، خصوصاً بعد ثورة أو تغيير جذري كبير، حيث تبدو الآمال كلها متجهة نحو تغيير اقتصادي اجتماعي كبير وملموس وفوري بعد "زوال" النظام القديم.
سرعان ما تنكمش الآمال بطبيعة الحال ويصبح اسم "الديمقراطية" مرتبطاً ببطء الإنجاز وكثرة العثرات والثغرات وقلة الحسم في أي اتجاه، مع وجود إعلام حر لأول مرة قادر على أن يستعمل حريته هذه للتأجيج والترصد والنقد بشكل قد يضخم المشاكل ويزيد من الاتجاهات الشعبوية.
أخشى أنه إذا لم نفهم هذه الجزئيات فإن الديمقراطية ستظل دوماً بعيدة المنال ضعيفة الجاذبية في مجتمعاتنا.