قراءة في كتاب "التخلي عن الأدب"
عندما تسمع كلمة "سندباد" أكيد أنّ ذهنك سيأتي على ذلك البحّار المغامر الذي طاف الأرجاء، وعاش أحداثا ووقائع غريبة كان في كل لحظة يخرج منها منتصرا غانما، هو كذلك عبد الفتاح كيليطو المغامر المبحر في دروب الأدب وبحاره، لا تعرف سفينته شطّا واحدا، يجعل القارئ -كما قال الخطيبي- في حيرة ومتعة يقظة.
جمع عبد الفتّاح كيليطو بين حسنين، أولا قدرته على الحفر والتنقيب في الأدب العربي القديم، ذلك أنه استطاع أن يتناول هذا الأدب من جوانب شتّى، طارحا السؤال بشأنه، على الرّغم من الدراسات السابقة التي تعرّضت له، ثانيا الأسلوب: يتميز كيليطو بأسلوب فريد يميّزه عن غيره وهو أسلوب سلس ذو قدرة إبداعية هائلة، تجعل القارئ في متعة مضاعفة، متعة الموضوع ومتعة الأسلوب.
"التخلّي عن الأدب" هو العنوان الذي اختاره عبد الفتّاح كيليطو ليسم به عمله الجديد الصّادر عن منشورات المتوسط 2022. والذي تضمّن تسعة عشر فصلا: بورخيس والمغرب، ضون كيخوطي، حامد بن الأيلي، لوقيانوس، الأديب بطلا... الناظم بينها تيمة "التخلّي".
لعلّ ما يسترعي الانتباه بداية هو العنوان الذي اختاره كيليطو "التخلّي عن الأدب"، يقف القارئ على عتبة تفسيرات وتأويلات متعددة، هل يعني التخلّي: الترك والابتعاد النهائي والكلّي عن الأدب؟ هل يمكن لصاحب الكتابة والتناسخ والأدب والغرابة... أن يتخلّى عن الأدب؟ بطبيعة الحال لا، كيف يتخلّى كيليطو عن الأدب وهو الذي تناوله بالدراسة والنقد والتمحيص، بل وشكلت كتاباته النقدية إبداعا أدبيا قلّ نظيره، نظرا لسلاسة وقوة تعبيره، ولفرادته كذلك، وعليه لا نجازف إذا قلنا إنّ الأسلوب هو كيليطو.
سعى عبد الفتّاح كيليطو على امتداد كتابه أن يتناول تيمة "التخلّي" داخل الأدب متنقّلا في ذلك من جذور الأدب العربي وطارقا باب الأدب العالمي
البقاء بالتّخلّي
دائما ما ننظر إلى التخلّي نظرة سلبية ومتجاوزة، لا يعني التخلي الترك والتجاوز فقط، التخلي هو خطوة نحو الأمام، صرخة في وجه الجمود والتقليد، إنه عملية اكتسابية، لذلك سعى كيليطو في كتابه هذا أن يتناول "التخلّي كموضوع للأدب، ربما موضوعه الأساس وقد يكون سرّ استمراره". (التخلّي عن الأدب، ص 80).
سعى عبد الفتّاح كيليطو على امتداد كتابه إلى أن يتناول تيمة "التخلّي" داخل الأدب متنقّلا في ذلك من جذور الأدب العربي وطارقا باب الأدب العالمي: أبو العلاء المعري، الحريري، الهمذاني، بورخيس، رولان بارط... وغيرهم كثير.
وهو الأمر الذي نجده يعنون به أول فصول الكتاب "بورخيس والمغرب"، تناول الكاتب بورخيس في علاقته بالأدب العربي، حيث فوجئ بسعته ومعرفته بهذا الأدب، لقد شكّلت إشارات بورخيس حول الأدب العربي، ذلك الخيط الرّابط الذي جعل كيليطو يقبل على قراءة ما كتبه بورخيس، بل ويقيم ألفة داخل عالمه.
تظهر تيمة التخلّي حينما يتناول كيليطو رواية "ضون كيخوطي" لثيرفانطيس، طارحا السؤال بشـأن تخلّي الكاتب عن اسمه لشخصية أخرى تدعى "حامد بن الأيلي" باعتباره المؤلف الحقيقي للرواية، يرى كيليطو أن "بن الأيلي" هذا هو في حقيقة الأمر ترجمة للأيل من الإسبانية Ciervo إلى العربية وهو الأمر الذي يحيل على اسم ثيرفانطيس نفسه، كما أنّ هذا الأمر -حسب كيليطو- قد يدخل في إطار إجراء تقليدي معروف في الأدب، يقوم من خلاله المؤلف إلى نسب عمله إلى شخصية متخيّلة.
إنّ ما يميّز كتاب كيليطو هو قدرته على الحفر في موضوعات شتّى (لها ارتباط بالتخلّي)، الناظم بينها هو الأدب، لذلك نجده في الفصل السابع "من الشرح إلى الترجمة"، يتناول قضية مهمّة متعلّقة بالانتقال والتحول: "من الشرح إلى الترجمة"، وهو أمر يتعلّق بعملية الفهم لدى القارئ، ذلك أن القارئ في أحايين كثيرة يقف عاجزا أمام جبروت النص وسلطته، إنّها إحدى الصفات المميزة للأدب العربي القديم حسب كيليطو، إنّه أشبه بالبئر فلا ماء إلاّ بعد حفر عميق في طبقات أرضه، لقد اختلف الأمر اليوم ولم يعد النص الحديث بحاجة إلى من يشرحه، انزاح الشارح وعوّض بالمترجم الذي لعب نفس دوره.
التخلّي بين الأدب العالمي والعربي القديم
التخلّي ظاهرة أدبية عالمية، لذلك نجد عبد الفتاح كيليطو، يتناول هذا الموضوع من جوانب مختلفة سواء ما ارتبط بها من أدب عربي قديم أو عالمي.
في الفصل الحادي عشر المعنون بـ"القدّيس سمعان"، يعود بنا عبد الفتّاح كيليطو إلى "ضون كيخوطي" الذي أدرك أنّ التخلّي هو خطوة أخرى نحو الأمام، أدرك أنّ أدب الفروسية أطبق على عقله، وأن تخيّلاته كانت تقوده نحو المجهول... لذلك كان لا بد من التخلي، الواقع مختلف، لا بد من خطوة، قفزة... رأى أنّ الانتقال إلى قراءة أخرى بمثابة خلاص وانعتاق.
لقد لبس "ضون كيخوطي" درعا، واعتبر نفسه المخلص المدافع عن القيم والعدالة والحرية... ضدّ أعداء مفترضين لا وجود لهم إلا في مخيّلته، تخلّى عن كل هذا ليبحث عن أدب آخر غير أدب الفروسية. كما فعل أبو زيد السرّوجي الذي أعلن توبته من الكدية والاحتيال والخداع إلى الزهد، هكذا "تنتهي مقامات الحريري بالتخلّي عن الأدب باعتباره باطل الأباطيل، وظاهريا بالاشمئزاز منه وكراهيته، لكن التخلّي عن الأدب داخل في مجال الأدب، يندسُّ فيه ويشكّل أحد مواضيعه، ضمنيا أو صراحة". (التخلّي عن الأدب، ص 80).
يورد عبد الفتّاح كيليطو في هذا الصدد قصّة مشابهة حينما يقرّر سمعان التخلّي عن رعي الغنم وطرق باب الزهد، "كان راعيا للغنم وذات يوم وهو في الثالثة عشرة سمع في الكنيسة نص صلوات، وبالضبط قراءة الطوبويات... اضطرب سمعان وتأثر بهذا الكلام، ثم أقام في دير، وصار يواصل الصوم لمدّة أربعين يوما بلا انقطاع". (نفسه، ص 65).
إنّ سمة التخلّي ليست مرتبطة بأدب دون آخر، ارتبطت بالقديم والحديث، ارتبطت بالأدب العربي القديم، ذلك أن مجموعة من الشعراء سعت إلى الثورة -ولو نسبيا- على بعض أسس القصيدة التقليدية مثل أبي نواس والمتنبي وأبي العلاء المعرّي، هذا الأخير مارس الشعر بكثير من اليقظة الفكرية والتبصّر، وانتقاله من ديوان "سقط الزّند" إلى "اللزوميات" دليل على هذا التحول أو بعبارة كيليطو "التخلّي".
لقد استطاع المعرّي أن يمارس "حداثة شعرية" في إبداعه الشعري من خلال ديوانه "اللزوميات"، الذي يعبّر عن هذا التحول العميق الذي أصاب منهجه الشعري، "التخلي عن الأدب فيما يخصه هو الابتعاد عن الأغراض التقليدية عن "الميْن"، عن محاكاة ما مارسه وما وصفه السّابقون". (نفسه، ص 68).
تخلّى المعرّي عن أسلوبه القديم، لكنّه لم يتخلّ عن شعره، إنّها عملية تمحيصية دقيقة لعملية الإبداع الشعري لديه، أدرك أن بناء القصيدة التقليدية كما تلقّاها لم تعد صالحة لزمنه، تخلّى لكي يحتفظ، بحث عن حياة جديدة، والتي لا تكون "إلا باكتشاف ممارسة جديدة للكتابة". (قولة لرولان بارط، المرجع السابق، ص 61).
التخلّي سمة من سمات الأدب، إنّه ضرورة ملحّة من أجل الاستمرار، لا تطور إلا بالتخلّي، التخلّي نقيض الجمود والوقوف، من يقف في مكانه يطاوله النسيان، يخرج من كتاب التاريخ، والأدب ما كان ليضمن استمراره ووجوده إلا بالتخلّي.