في رمضان... المسيح يطهّر الهيكل من جديد
مَكْتُوبٌ: "بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!".
هذا ما قاله السيد المسيح بعد أن "قلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام" لأنهم كانوا "يبيعون ويشترون في الهيكل". يبدو أنّ تلك كانت عادة الإنسان من قديم؛ أن يستغل المواضع والأفكار المقدسة في تنمية أرباحه.
ماذا لو كان المسيح بيننا اليوم أو حتى "مانولي" بطل رواية "المسيح يصلب من جديد" لكازانتزاكيس، ورأى شيئاً يسيراً مما يحدث في شهر رمضان المكرّم؛ أقصد الإعلانات الرمضانية. ولما كان عصر الأنبياء قد انتهى منذ زمن، فيمكننا النظر في مقال كتبه الصحافي محمود السعدني في مطلع الألفية استنكاراً لإعلان المنتجات في نهاية فقرة قراءة القرآن الكريم، تبدو تلك حيلة إعلانية شديدة البراءة بالنسبة إلى ما نراه اليوم.
تعالج الإعلانات الرمضانية اليوم مواضيع شديدة التنوع والاختلاف: الغربة، أصحاب المشاريع الصغيرة، بحث الشباب عن العمل، السيدات المعيلات، العمالة غير المنتظمة، الصداقة، التجمعات العائلية، المرض، الوحدة والعلاقة بين الأب وابنه والأم وبنتها، إلخ. قد تجتمع أحياناً في إعلان واحد، فلا تفهم المغزى من ذلك الإعلان إلا أن يُعبّر عنه بوضوح في النهاية. فقد تكون رسالة الإعلان أن ترسل "أرسل رسالة إلى والدتك تشكرها فيها على ما قدمته لك طوال السنوات التي تولّت تربيتك فيها" عبر خدمة الإنترنت التي تقدمها الشركة الفلانية أو ما شابه، وأحياناً توجد تلك المواضيع دون ربط بينها وبين الخدمة أو المنتج الذي تقدمه الشركة، ولكنه حشو والسلام.
من اللافت للنظر أنّ ما يقدّم في تلك الإعلانات من تلك الموضوعات أو المشاكل لا يعكس اهتماماً حقيقياً بها، فهي غالباً ما تقدّم في تصوّر يوتوبي لا يعكس حقيقة المشكلة، بل يسطحها. فقد يظهر واحد من "الأجرية" أو "الفواعلية" كما يطلق عليهم، وهم عمال يعملون بالطلب لمدد في الغالب قصيرة ويتكوّمون غالباً على الأرصفة في قيظ الصيف وقرص الشتاء، لفت نظري أنه في إحدى الإعلانات صُوِّروا في مشهد قصير يصوّر واحداً من أولئك العمال، يجلس جلسة رضا تام وطرب غريب، قد لا يوجد عند من تجري في جيوبهم وحساباتهم أرباح تلك الشركات.
المشاكل المقدّمة في الإعلانات، غالبًا ما تقدّم في تصوّر يوتوبي لا يعكس حقيقة المشكلة، بل يسطحها
هذا ما يدعونا إلى إعادة التفكير في أخلاقيات التسويق عموماً؛ هل من الأخلاقي التسويق لمنتج؟ ماذا لو كان المنتج ذا أضرار معلومة ومقرّرة كالمشروبات الغازية أو الأطعمة السريعة؟ أو كان لشركات معروف عنها تردّي الخدمة التي تقدمها؟ أو ارتباط صاحب الشركة أو مسؤولين فيها بجرائم معروفة أو شبهات فساد؟ وهل يجوز استغلال الأمور المقدّسة أو القيم الإنسانية للترويج لمنتج ما؟
كان هذا شاغلاً لأحد أساتذة الفلاسفة المعاصرين، بيتر جيلدنهويس، عبّر عنه في إحدى المقالات بمجلة "فيلوسوفي ناو" تحت عنوان "الإعلان أمر غير أخلاقي". يرى بيتر أنّ الإعلان أمر غير أخلاقي بشكل عام، واصفاً إياه بأنه شكل من أشكال السفسطة، يستخدم فيه المعلنون الشهرة، والجنس، والجمال، والخوف، والخجل، والقعقعة والدعابة لبيع منتجاتهم. ويضرب مثالاً بالإعلان الذي يظهر فيه ميسي مستعرّضاً جسده الرياضي في إعلان لإحدى المشروبات الغازية. يتمثل وجه اعتراض بيتر في شقين: الأول، هو أنّ رسالة الإعلان تتعارض مع شكل الرياضي الرشيق الذي يمثله ميسي. الثاني، هو أنّ ميسي ليس متخصّصاً في علوم التغذية بالطبع.
رغم أنّ هذه الحجج قد تدعو إلى التفكير، لكن لا يبدو أنها سيكون لها أثر في تعديل سلوك المعلنين، إذا وصلتهم أو طرأت لهم من الأساس. يقول أدم سميث في كتابه "ثروة الأمم": "نحن لا ننتظر غداءنا أو عشاءنا من طيب خاطر القصاب، وصانع الجعة، أو الخباز، بل من اهتمامهم بمصالحهم الخاصة. ونحن عندما نتوجه إلى الآخرين، لا نخاطب إنسانيتهم، بل أنانيتهم، ولا نتكلم إليهم عن احتياجاتنا الخاصة، بل عن منافعهم".
هكذا تعمل الرأسمالية وتلك أخلاقها.