في بناء عقل ديني مدني (1)
لا شك في أن بعض الخطابات القومية والعلمانية والدينية ساهمت في إنتاج نسخ جديدة لخيبات متكررة في الواقع الإنساني، كما بات لا يخفى على أحد تحول الحراك الفكري السائد بكل تلوناته في البلاد العربية والإسلامية من جزء من الحل إلى جزء من المشكلة، بل ارتكبت بعض التيارات الفكرية المجتمعية الخطايا التي لا تغتفر، والحقيقة أن المجتمعات لا يعلو قدرها بلا قيم تحكمها، وأن العقائد والشرائع لا يمكن أن تكون نصوصاً عمياء أو بلا فكر، كما لا يمكن لصاحب قيمة دينية أو شرعة قانونية أن يصاب بتكلس عقلي يمنعه من الوعي ومن ثم الإبداع. فالحياة حركة والجمود توقف وهو يتناقض مع مفهوم الدين العلمي المتجدد (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) فلا شيء عرضة للثبات إلا القيم، أما النظرة الدينية للوسائل والحياة والأطر فهي متجددة ،والإسلام من جهة هذه الغاية يتسع للتجديد في كل زمان؛ لأنه إذا كانت غايته النهوض العام بالإنسانية، فوسائل هذا النهوض تسير في طريق الارتقاء، ولا تقف عند جهد محدود لا تتعداه، وأمرها في هذا يخالف أمر العبادات، لأنها تعتمد على الارتقاء في العلم والعرفان، والإنسان لا يمكن أن يبلغ الكمال في العلم وإن امتد به الزمان، ووصل فالإسلام ليس دين عبادة فقط، وإنما هو نهضة دينية ومدنية معا. الإسلام في عباداته وفي مفهومه الكامل يمزج بين المعنى الديني والدنيوي بل حتى إن العبادات نفعية في الحياة قبل أن تكون مثابة أخروياً، ومن هنا يمكن التأكيد على أنه:
• لا أمجاد في السماء على حساب خراب عمران الأرض.
• الدين نفع دنيوي قبل أن يكون معنى غيبياً أو جزاءً في يوم الحساب.
وإلى هذا أشار الإمام عبد المتعال الصعيدي بقوله: "الإسلام دين جامع لصلاح الدنيا والآخرة فلا يقتصر الأمر فيه على ما يصلح الآخرة وحدها بل يدخل فيه ما يصلح الدنيا أيضاً ، وقد يدخل فيما يقصد به صلاح الدنيا عباداته السابقة لأن العبادات الإسلامية تمتاز على غيرها من العبادات بأنها لا يقصد منها مجرد التعبد، ولا مجرد إظهار الخضوع لله تعالى؛ لأن الله تعالى غني عن عبادتنا وليس في حاجة إلى إظهارنا الخضوع له وإنما يقصد منها في الأكثر أمور تعود علينا بالمصلحة في دنيانا قبل أن تعود علينا بشيء في أخرانا والحقيقة أنه فضل من الله تعالى أن يشرع لنا هذه العبادات لمصالحنا الدنيوية، ثم يثيبنا عليها في الآخرة ، لتزداد بهذا الثواب، رغبتنا في أدائها ويكون لنا فيها رغبتان: رغبة لنفعها لنا في دنیانا، ورغية لنفعها لنا في أخرانا وأتى بشرائع عامة عادلة، لا إيثار فيها اشعب على شعب، ولا تمييز فيها لجنس على جنس".
ومن هنا يقفز سؤال مشروع ماذا تعني ببناء عقل ديني مدني؟
قبل أن نجيب عن هذا السؤال، لا بد أن نبين أن أن عدم وجود الأدبيات المباشرة في هذا المجال يكاد يكون أمراً واضحاً ولا ننكر بروز محاولات فردية لكن ليس ثمة سردية جماعية علمية تظهر الأساليب الواقعية والعملية الصحيحة المبنية على تصورات عقلية دينية تمزج بين المعقول والمنقول وتتناسب مع العصر الذي نعيشه ومتغيراته المتلاحقة يمكن للدين أن يؤثر في العالم الدنيوي إذا هو نفسه أصبح دنيوياً. ومع هذا القصور البين في فهم هذا المعنى إلا أن هناك تقدم واضح في ظهور عقليات قاصرة في فهمها الديني ومعايشتها المدنية هو ما يدعونا للتأكيد على ما قاله المرحوم علي عزت بيجوفيتش (إن الدين الذي يريد أن يستبدل التفكير الحر بأسرار صوفية، والحقيقة العلمية بعقائد جامدة، والفاعلية الاجتماعية بطقوس، لا بد أن يصطدم بالعلم) .
إن أبسط تعريف للإسلام يكاد يغيب اليوم أنه (الدعوة إلى خلق إنسان متسق مع روحه وبدنه ومجتمع تحافظ قوانينه ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية على هذا الاتساق ولا تنتهكه، إن الإسلام هو وينبغي أن يظل كذلك البحث الدائم عبر التاريخ عن حالة التوازن الجواني والبراني هذا هو هدف الإسلام اليوم وهو واجبه التاريخي المقدر له في المستقبل).
الإسلام قضية عادلة بيد أنها يا للأسف وقعت بين أيدي محامين فاشلين كما يقول المرحوم الغزالي
إن جوهر الإسلام وحكمته تتحقق طهارة المخبر واستقامة المظهر وهو ما يعبر عنه بمفهوم الإصلاح ويجمع بين التقوى الفردية ونجاة المجتمع من الغواشي الحضارية وذلك بامتلاكه الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية المبنية على أساس العدل، وحق المعتقد الحر والشورى والتكافل الاجتماعي وعلى مساواة بين المحكوم والحاكم أمام القانون. (إن المهمة الأسمى التي ينبغي أن يؤديها زعماؤنا اليوم هي أن يقدموا محتوى إسلامياً صحيحاً وتوجيهاً إبداعياً إيجابياً لأحلام الناس ورغباتهم أن يعدوا الناس ليس سياسياً فحسب، بل روحياً وأيديولوجياً).
ونعود إلى السؤال ماذا يعني بناء العقل الديني المدني؟
لا بد قبل المباشرة في تعريف المعنى أن نثر بمعاناة مجتمعاتنا من عقدة الطهورية الذاتية والأنا الخلاصية تارة باسم الدين وتارة باسم السياسة والقومية والعلمانية وإن التفكير في استعادة العقل الديني المدني هو جزء من عملية إسعاف للمجتمع وبحث عن نجاة دون مخاصمة الهوية المجتمعية.
فإذا كان الدين هو الحق من الرب (والذي أنزل إليك من ربك الحق) إن هذا يستدعي صياغة عقل يبني خطابه على أسس العرض الصحيح المبني على الفهم المدني غير المتوحش وبالطبع نحن لا نقصد بالعقل الديني المدني ما سمي في الولايات المتحدة الأميركية بالدين المدني Civil religion والذي نشأ من رحم الفكر السياسي الفرنسي ثم صار موضوعاً أساسياً في أميركا بعد أن نادى به روبرت بلاه في 1960. وهو يعني به القيم المجتمعية المشتركة لأمة، كما يُعبـَّر عنها في الشعائر والرموز العامة (مثل العلم الوطني) والاحتفالات في المناسبات القومية (الأيام المقدسة) في أماكن مقدسة (مثل التماثيل ومواقع المعارك والمقابر الوطنية).
ويزدهر ذلك الدين خارج الكنائس، وإن كان مسؤولو الكنائس والاحتفالات أحياناً يكونون ضمن ممارسة ذلك الدين المدني.
إن بناء العقل الديني المدني يعني باختصار بناء خطاب قوي من حيث المحتوى يجيب عن أسئلة الراهن ويملك القدرة على تقديم ما ينفع للإنسان وكيف يمكن تطبيقه؟ وهذا يعني استحضار القيم مع احترام العقل وأيضاً الإمكانية والواقعية وبعد تلك المقدمة التمهيدية لابد أن أبين أهمية هذا البناء ولذلك لا بد أن نعترف أنه لم يعد بمقدورنا أن ندفن رؤوسنا في الرمال كالنعامات ونطالب بالحل الأمني مع المتطرفين فقط أو نعمل على التخويف من الدين ورموزه عبر التوظيف الإعلامي أو نطالب بإزاحة الدين ومظاهره من المجتمع كل هذه الوسائل لم تعد مجدية فكل تطرف يعود بتطرف مماثل له أو أكبر كما أن الحلول الأمنية لا تكفي وهي ضرورية، ولكنها غير كافية ولم تمنع ولن تمنع.
ولذلك تظهر قيمة فكرة البناء العقل الديني المدني حيث يسهم في تكوين ذائقة أخلاقية وعلمية منضبطة وهي المقصود بالعقل الديني المدني ومع بيان هذا المعنى يصاحبنا واجب الصراحة والحقيقة يفرض علينا أن نبين أن الدين كان ضحية الجهل وأنه من السهل جداً تحميل الدين والسياسة آثام الواقع ومقابحنا الجماعية، ولكن من الصعوبة أن نعترف بنواقصنا وانحرافتنا في فهم الدين وكذلك في قصر نفسنا الأخلاقي.
الإسلام قضية عادلة بيد أنها يا للأسف وقعت بين أيدي محامين فاشلين كما يقول المرحوم الغزالي.
وبعد كل ذلك ندلف إلى ضبط المفاهيم في هذا المقال التمهيدي والذي ستعقبه بإذن الله مقالات تكوين العقل الديني المدني وتحرير الدين من عقد المتدينين.
البناء: هو وضع شيء على شيء على جهة يراد بها الثبوت واللزوم.
وأما في تداولنا في هذا المقال فهو مجموعة من التصورات العقلية والسلوكيات الأخلاقية التي تكون رافعة حقيقية تستوجب التصرف المدني السلمي وفق نظرة دينية إنسانية.
وأما العقل فقد حصل جدال في تعريفه بين الفلاسفة وعلماء الدين ويمكن بيان معنى العقل بإيجاز (بأنه جماع مصفوفة القوى الإدراكية من الوعي، المعرفة، التفكير، الحكم، اللغة والذاكرة. هو غالبًا ما يعرف بملكة الشخص الفكرية والإدراكية. يملك العقل القدرة على التخيل، التمييز، والتقدير، وهو مسؤول عن معالجة المشاعر والانفعالات، مؤديًا إلى مواقف وأفعال).
وأما الدين فعلى حد ما ما ذكره صاحب (كشاف اصطلاحات العلوم والفنون): أنه وضع إلهيٌ سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم، إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل. وقد عرفه د. عبد الله دراز بقوله: الدِّين وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات، وإلى الخير في السلوك والمعاملات.
إن تلازم المعنى الديني بالأخروي في تعريف الدين ليؤكد على مدنية العقل الديني، والمدنية تعني: رحمانية معاني الدين وهي مقصد البعثة النبوية وفيها تتجلى مشروعية التعدد وحق الاختلاف المشروع والتعددية القومية أو الدينية أو الفكرية وشيوع السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، وحرية وكرامة الناس والأمان الشخصي.
إن شرف كل فكرة مرتبط بشرف أدلتها وغايتها وتطبيقها ولذلك تقع على عاتق النخب المثقفة تحرير الدين من عقد المتدينين وفك ارتباط الدين بالتاريخ وإملاء السياسة وفق طرق مثلى لتبليغ كلمات الدين وجذب القلوب وفق الظروف المتاحة وفي إطار المصلحة والقانونية.