في القصص القصيرة ونقدها
هل هي مصادفة؟!
ربما، فأنا لا أعرف لهذا التوافق اسماً آخر، ففي دقائق معدودات، وعبر الإنترنت، من خلال شاشة حاسوبي، حصلت على نسختين إلكترونيتين لمجموعتين من القصص لكاتبين من مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية، فصلت بينهما أزيد من سبعين سنة. المجموعة الأولى تحت عنوان "المناديل البيض"، وهي من تأليف مواهب كيالي، وصادرة عن رابطة الكتاب السوريين، طبعتها ونشرتها دار القلم للطباعة والنشر في بيروت في حدود سنة 1951، وقدَّم لها المفكر اللبناني حسين مروة. وأما المجموعة القصصية الثانية، فهي "قارئ الندوب"، من تأليف عمّار الأمير، وصادرة عن "جفرا ناشرون وموزعون" في العاصمة الأردنية عمان، أواخر سنة 2022، وقدَّم لها جاسم الدندشي، صاحب دار الدندشي للطباعة والنشر في كندا.
أفزعني ما كتبه حسين مروة في تقديمه ونقده لمجموعة قصص مواهب كيالي، فقد كال القصص بمكيال من نقدٍ شديد، قاس، عنيف، قويّ، ثقيل الوطأَة، لا أجد اليوم من كُتاب القصص من يقبل (ولو كان الناقد محقاً في نقده) مثل هذا النقد البناء، وأيضاً ينشره كمقدمة لمجموعته القصصية، يا الله كم كان صدر السلف الصالح واسعاً!
يقول حسين مروة في مقدمته: "نعلم أنّ مواهب كيالي قد أنشأ هذه القصص في أوقات متباعدة، تخالفت فيها نظراته للحياة، وتباعدت خطواته في مراحل التطوّر النفسي والعقلي معاً، فليس بينهما اتساق في مزاج النفس، وليس بينهما اتساق في طريقة النظر إلى الحياة، ثمَّ ليس هناك كبير صلة بين الحياة التي يعيشها ناس القصص وبين هذه الدنيا الواقعية التي يعيشها ناس اليوم الحاضر في الوطن السوري، حيث يعيش الكاتب نفسه، وحيث يلتذع هو وصحبه ومواطنوه جميعاً بصنوف من المكاره، وصنوف من الكبت العسير الشديد، وصنوف من الضيق: ضيق الصدر، وضيق السجن، وضيق العيش، وضيق فسحات الفكر".
رحم الله مواهب كيالي، الذي ترك كتابة القصص، والتفت إلى الترجمة وكتابة المقالة في صحف اليسار، وقد صال وجال في ملاعبها، وكان علماً من أعلام الصحافة المؤثرة والجسورة في جريدة النور السورية في خمسينيات القرن العشرين. مات في موسكو، ودفن فيها عام 1977. ومن ثمَّ برع شقيقه الأصغر سناً، حسيب كيالي، في كتابة القصص والمسرحيات والروايات والمقالات، وصار علماً من أعلام كُتابها في الوطن العربي.
ونذهب، الآن، للكلام عن مجموعة قصص "قارئ الندوب" للقاص السوري عمّار الأمير، وهي كانت مقصدنا منذ البداية التي تحدثنا فيها عن مواهب كيالي. شخصياً، احتار عقلي ومن ثمّ قلمي في تقييم هذه القصص التي بلغت 24 قصة، وهي خامس المجموعات القصصية التي نشرها عمّار الأمير. ولا أتفق كثيراً مع جاسم الدندشي صاحب دار الدندشي للطباعة والنشر في كندا، والذي كتب مقدمة لهذه المجموعة من القصص، وكال فيها مديحاً طافحاً، وهذا شأنه، لأنه يكيل بمكيال الناشر، ولن يقول (بكل تأكيد) عن دبسه حامض.
الفكرة تتحوّل إلى قصة ناجحة حين تُحمّل على أكتاف حكاية
قرأتُ قصص "قارئ الندوب" على مهل، ثمَّ ذهبتُ إلى محرك البحث في حاسوبي، وحمّلتُ أكثر من عشرين مجموعة قصصية حديثة لكتّاب من مختلف أقطار الوطن العربي، قرأتها جميعاً خلال أيام، منها على سبيل المثال لا الحصر، ما كتبته العراقية إنعام كجه جي في مجموعة قصص حملت عنوان "بلاد الطاخ طاخ". فعلتُ ذلك لأنشّط ذاكرتي علّها تُهديني سواء السبيل في تقييم قصص عمّار الأمير. وقد لاحظتُ ما يلي: "الحكاية هي لبّ القصة، وقصص عمّار الأمير في مجموعته "قارئ الندوب" تسير على نسق واحد كرتل عساكر في دورة الأغرار، رؤوسهم محلوقة، بدلاتهم فضفاضة، بساطير أقدامهم تخضّ خضاً في أقدامهم، وجوههم تشبه بعضها شبهاً مريعاً، وكذلك قصص المجموعة، فيها هذا الشيء المصنّع تصنيعاً عسكريّاً، أو قل مدرسيّاً، وهذا ما أفقد شخصيات القصص الحرية، والانطلاق في القول، إنها أسيرة عند الكاتب، فمثلاً "رجب" في قصة "قارئ الندوب"، والتي حملت المجموعة اسمها، ظلّ حبيس قفص ضيّق من الأفكار، حتى أنه كاد يختنق بما يُملي عليه الكاتب، وأكاد اسمعه يصرخ في وجه الكاتب: أطلقني، أبوس يدك، أعطني حريتي.
من مطالعتي للمجموعات القصصية (على اختلاف مشاربها)، لفت نظري (وأظن ذلك غاية في الأهمية)، بأنّ القصة التي نالت حظّاً من النجاح متعلقة بالحكاية المتشبثة بها تشبث الرضيع بأمه، لا قصة طويلة ولا قصيرة ولا قصيرة جداً دون حكاية. بمعنى أنّ الفكرة تتحوّل إلى قصة ناجحة حين تُحمل على أكتاف حكاية. فأنت حين تكتب قصة من سطرين دون حكاية لا تصل للقارئ، فما بالك في قصة من عشر صفحات. الأفكار المحمولة على أكتاف الشخصيات المُصنّعة تصنيعاً مدرسيّاً (أكانت هذه الأكتاف عريضة أو ضيقة، كما في قصة "خبز حاف" التي تصدّرت قصص قارئ الندوب) لا تصنع قصة ناجحة، لأنها تفتقر إلى حكاية تُحكى. ما العمل هنا يا مواهب كيالي؟
يقول حسين مروة في مقدمته ونقده: "وبعد، فإنّ للفن القصصي حقاً علينا أن لا ننساه في معرض الحديث عن قصص هذه المجموعة. الواقع أن مواهب كيالي يملك ذخيرة من المواهب الفنية والأدبية تستحق منه مزيداً من الرعاية والعناية، حتى ينشئ من هذه الذخيرة بناءً أدبياً رفيع العماد مشدود الأركان".