فلسطين تعيد كتابة التاريخ
فلسطين لا تعيد ترتيب التاريخ من وجهة نظر من اعتدى أو قتل أو ظلم، إنما من وجهة نظر من ظُلم أو شُرّد، وهكذا يمكن للمظلوم أن يصوغ الرواية، ويكتب أحداثها ويسرد مواقفها.
كيف يمكن للضعيف أن يكتب التاريخ، فنحن نعرف أن الأقوياء دائماً من يرتبّون التاريخ وفقاً لأهوائهم، وآرائهم التي يرونها توافق منطقهم القمعي. فدعونا نقول بكل صراحة إن العالم اليوم اعترف ويعترف في زهوة الحاضر أن الحق واضح، وهو إلى جانب الفلسطينيين، وسائل الإعلام كلها صوّرت كل شيء من اعتداءات وقتل ودمار، وثقت آلاف الفيديوهات التي تثبت وحشية هذا الكيان ودمويته الإرهابية.
وتصّور وسائل الإعلام المظلومين، الذين قُتّلت عائلاتهم وأهاليهم وهُجّروا من بيوتهم ومنازلهم، والذين ارتكبت فيهم أشنع المجازر والفنون الدموية، بهدف المشاهدات وركوب الترندات، حتى كل منصات التواصل الاجتماعي جيّشت كل إمكانياتها، حتى تصّور هذه الدماء، وهذه الدراما الشنيعة، بهدف تصوير الظُّلم، لأن الظلمَ والمظلوم مطلوبان درامياً وإعلامياً، ويدعمان السرديات "الأوفر" التي من خلالها يمكن أن تحقّق المشاهدات أنت كمنتج إعلامي ودرامي. هذه المشاهد الدرامية التي دائماً ما يشاهدها الجمهور العام، وأغلبهم من النساء والأمهات الكبار بالسن والجدات.
نحن نحب مشاهد الظلم، ونتلذذ به والدليل أننا، دائماً نصوّر أنفسنا بأننا ضحايا في حياتنا وأننا لا نستحق كل هذا القهر والتعب
مثلاً، مشاهد الظلم الدرامية التي تنتشر على اليوتيوب، والعناوين من قبيل، كيف قتلوه وحيداً؟ شاهد كيف ضرب أمه وطردها من بيتها؛ بسبب زوجته؟ وكيف رمى أباها في دار العجزة؟ وهذه المشاهد المحبوبة والمطلوبة للمشاهد مهما تكرّرت، ومهما اعتادها المشاهدون.
نحن نحب مشاهد الظلم، ونتلذذ به والدليل أننا، دائماً نصوّر أنفسنا بأننا ضحايا في حياتنا، وأننا لا نستحق كل هذا القهر والتعب.
أتذكر أنّ هناك حلقة، تعرضها القنوات السورية دائماً بمناسبة أعياد الأم، وهي كيف يأتي البطل محمد قنوع المرحوم ليقول في حفل زفافه أمام الملأ، أنا أريد أن بيع أمي يا ناس، في كل مرة يبدو هذا المشهد قاسياً، رغم أنه درامي مكرّر، وأعتبره في بعض الأحيان مبتذلاً، لكن الناس تحب أن ترى الظلم، تستمتع، وتتمنى أن تراه مثلاً، منتصراً يوماً، ومكان الظالم أياماً كثيرة. أتذكر أني كنت أطلب من أمي أن تروي لي قصص شبان كانوا فقراء منبوذين مظلومين، ومن ثم وضعهم القدر في ماء الغنا، أو جاءت حظوظهم تستعيد ما سلب منهم.
وقد يخلّد المظلوم عبر التاريخ أكثر من الظالم، فمثلاً كما نعرف ونقرأ في تاريخ معركة كربلاء. فرغم أن واقعة كربلاء أكلَ التاريخ عليها وشرب، إلّا أنها إلى الآن تُذكر بكل تفاصيلها، سواء من وجهة نظر التاريخ أو من وجهة النظر الدين، وهنا لا تهمنا التفاصيل التي يختلف فيها الفرقاء أو المؤرخون، إنما المظلوم هو الحسين بن علي وهو الخاسر في معركته السياسية ربما والميدانية أيضاً، ولكن الحسين بقي إلى الآن وذكره أكثر ممن قاتلوه وظلموه بكثير، وبظلمه هذا انتصر، قالها غاندي مرةً: تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فانتصر، ونحن كعرب نحب فلسطين، نتعلم من فلسطين كيف نكون مقهورين، فننتصر، ولا يتذكرنا التاريخ أبداً، لأنه لم ولن يستطيع نسياننا، فمن وجهة نظر المظلوم ستعيد حتماً فلسطين كتابة التاريخ.