فلسطين... بين استثمار القضية واستغلالها
لا يمكن ذكر رقم محدّد حتى تاريخ كتابة هذا النص لأنّ عدّاد الشهداء الفلسطينيين في ارتفاع مستمرّ، إذ نستيقظ مع كلّ صباح تقريباً على خبر تشييع شهيد في المسجد الأقصى والخليل أو الضفة الغربية، نابلس، رام الله وغيرها.
عام 2022، كان أكثر الأعوام دموية بالنسبة للفلسطينيين في الضفة الغربية منذ بدأت الأمم المتحدة بتسجيل الوفيات بشكل منهجي في عام 2005 بحسب تقرير أصدره مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي المحتلة (أوتشا). وكلّ التقديرات تشير إلى احتمالات استمرار التصعيد ضد الفلسطينيين في ظلّ الحكومة الإسرائيلية الحالية، والأكثر يمينية بقيادة بنيامين نتنياهو، للتغطية على فشلها الداخلي.
تقع القضية الفلسطينية بين فكّي الاستثمار والاستغلال. مصطلحان مختلفان في المعنى والتطبيق، ففلسطين والأقصى والمقدّسات ليست للفلسطينيين وحدهم، بل هي لكلّ للعرب أيضاً. لكن المفارقة أنّ الفلسطينيين وحدهم يدفعون ضريبة مقاومة الإحتلال حاملين مآسيهم في المحافل الدولية أو داخل المخيمات وفي الشتات. وقد أثبتت التجارب والأحداث على مرّ السنوات أنّ الحكام في مكان والشعوب في مكان آخر، وأنّ كل الاتفاقيات التي وُقّعت للتطبيع مع العدو، بدءاً من كامب ديفيد إلى أوسلو إلى وادي عربة وصولاً إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، ليست خيارات الشعوب، والدليل أنّ الشعوب العربية من مصر والأردن، وعلى امتداد الوطن العربي، من خليجه إلى مغربه، ترفض التعامل مع العدو.
عرفت الشعوب العربية حق المعرفة موقع فلسطين الحاضر على مساحة الأمة العربية واستثمرتها بشكل إيجابي، هذا أقله ما ترجمته الجماهير العربية في مونديال قطر. فجاء مونديال 2022 في وقت تشهد فيه الأراضي الفلسطينية تصعيداً في الضفة الغربية. وعلى خلاف أيّ بطولات سابقة وجد الفلسطينيون دعماً كبيراً لهم من الجماهير العربية برفع الأعلام الفلسطينية، والفعاليات الداعمة لفلسطين ما أثبت حضورها وسمح بإيصال الصوت عالياً، حتى أصبح الجميع يقول أنّ فلسطين هي الحاضر الغائب في اللعبة. يمكن القول أكثر من ذلك: إنّ القضية الفلسطينية انتصرت في مونديال قطر.
أثبتت التجارب والأحداث على مرّ السنوات أنّ الحكام في مكان والشعوب في مكان آخر
تبقى المعضلة في كيفية استثمار هذا الانتصار في ظلّ موجة مقابلة من المزايدات، تشكل فيها القضية الفلسطينية شماعة لبعض الدول التي ترى أنّ تحرير الأقصى يبدأ من زعزعة الفوضى والاستقرار في المنطقة. الخطابات الرنانة من الشجب والتنديد لما يجري في الداخل الفلسطيني، لم تعد تلقى صداها لدى الغرب أو حتى لدى حكومات الاحتلال، حتى باتت فلسطين مجرّد شعار يُرفع ليضفي شرعية على استراتيجيات وسياسات دول بوصفها حركة مقاومة، تطالب بالتحرّر، وترفض حرية مجتمعاتها، ظنّاً منها أن الوقوف مع القضية الفلسطينية، وإرجاع القدس لأهلها، لا ينسجم بأيّ حال من الأحوال مع حقوق شعوبها وحرياتهم.
هذا على مستوى الدول، والأمر مشابه أحياناً على مستوى الأفراد، فلا يكفي اعتبار الكوفية الفلسطينية جزءاً من يومياتنا لنخلق لأنفسنا صورة المقاوم دون أن يتشكل لدينا الوعي برفض التطبيع بكلّ أشكاله.
مما لا شك فيه أنّ صور المقاومة متعدّدة، قد تبدأ من ارتداء الزي الفلسطيني حيث وجب، ولا تنتهي بأطفال فلسطين الحاملين للحجارة والمتربصين لآليات قوات الاحتلال. المهم أن يشكل أيّ فعل فرديٍ أو جماهيري عملاً حقيقياً ومستمراً لا يقتصر على لحظات معينة تليها فترات رتابة وجمود. لقد حمّلت الشعوب العربية قادتها والمناضلين في سبيل القضية الفلسطينية مسؤولية إيجاد أطر تبعد القضية الفلسطينية عن أي استغلال وتسير في سبيل الاستثمار الحقيقي الذي يخدم مقاومة الفلسطينيين بكافة أشكالها.