فضفضة علمانية
إنّ الوظيفة الأساسيّة للدولة هي توفير الخدمات والسلع العامة لمواطنيها، واحتكار وسائل العنف الشرعيّة والحفاظ على الأمن، وتنظيم الشؤون الاجتماعية والدنيوية للمجتمع... ولا ينبغي للدولة أن تتبنّى رعاية دينٍ أو مذهبٍ أو عقيدةٍ معيّنة، على حساب دينٍ أو مذهبٍ أو عقيدةٍ أخرى، بل ينبغي لها أن تتعامل باحترامٍ وحياديّةٍ مُطلقة مع جميع التوجّهات الدينية والعقائدية لمواطنيها، وأن تضمن لهم حقّ الحريّة في ممارسةِ طقوسهم وشعائرهم الدينية.
وفي الغالب، لا تحتاج الأديان الحقّة والعقائد إلى نظامٍ سياسي لكي يساعدها في الرواج أو اكتساب المشروعية، إنّما تكسب الأديان والعقائد مشروعيتها ونبلها وصدقها وانتشارها ورواجها من خلال ما تحمله من مضامين أخلاقية واجتماعية، يمكن أن تنتفع البشرية بها. على العكس من ذلك، أننا لو أخذنا نظرةً بسيطة على التاريخ ومساراته، وجدنا أنّ الأنظمة السياسيّة التي تبنّت ديناً أو مذهباً أو عقيدة معينة، وأقامت حكماً سياسياً عليه، انعكس ذلك سلباً على هذا الدين أو المذهب أو العقيدة، إذ يكون حينها محلّ نفورٍ وازدراء بسبب المظالم والانتهاكات والطغيان التي تقوم بها تلك السلطة أو النظام السياسي، تحت غطاء هذا الدين المسكين.
وهنا تأتي أهميّة الدولة العلمانية التي تُعنى بفصل الدين عن السياسة، وإبعاد المؤسّسة الدينية عن معترك السياسة، أي تضمن للدين أن يكون بعيداً عن استغلال المشاريع السياسيّة، وتجعله بمنأى عن أن يكون مطيّة يركبها أصحاب المطامح والساعون إلى تحقيق الأمجاد الشخصيّة بواسطة المشاريع السياسيّة. وبما أنّ الدولة العلمانيّة في هذه الحالة، تكون غير متكئة على دينٍ ما في فرض حكمها وكسب مقبوليتها، تكون ساحة الدين خالية من المسؤولية عندما تُقدم هذه الدولة على ممارساتٍ فيها ظلم أو فساد. كما أنّ النظام السياسي في الدولة العلمانية يمكن محاسبته بصورة أسهل وأبسط من الدولة الدينية، لانتفاء الأرضيّة المقدّسة التي يقف عليها في الدولة الدينية.
لا تحتاج الأديان الحقّة والعقائد إلى نظامٍ سياسي لكي يساعدها في الرواج أو اكتساب المشروعية
والدولة العلمانية تعتني بتدبير الأمور الدنيوية والاجتماعية للإنسان، أمّا الدين فيعتني بأموره الأخروية والروحية. إضافة إلى ذلك، أن الإنسان الذي يخسر دنياه لا بدّ له أن يخسر آخرته، لأنّ الإنسان عندما يعيش في ظروف دنيوية صعبة، وفي فقرٍ مدقع، غالباً ما تسوء أخلاقة، فتراه يندفع في الكذب والنفاق والسرقة في سبيل تحصيل ما يمسك بهِ رمقه، ولا يسلم من هذا الانجرار إلّا أصحاب البصيرة العالية من فئة الأنبياء والأولياء، فهؤلاء فئة شاذة وقليلة، والشاذ والقليل لا يُبنى عليه. يقول أبو ذر الغفاري: "إذا ذهب الفقر إلى مكان قال له الكفر خذني معك"، ولو أردنا أن نأتي بالشواهد من أقوال الأولياء والحكماء في هذا الخصوص، لملأنا كتباً كثيرة.
شرعيّةُ الحكومات ومشروعيّتها في الدولة العلمانية مصدرها الشعب لا غير، مع وجود عقد بين المجتمع والحكومة، بما يجعل الحكومة ملزمة ببنود هذا العقد، وفي حال فشلها يحقّ للشعب تغيير هذه الحكومة ليأتي بأخرى، لها القدرة على تلبية متطلباته وطموحاته والالتزام بالعقد المُبرم بينه وبينها. علماً أنّ الحزب الناجح، والذي يمتلك رؤيةً ومشروعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً لإدارة الحكومة، عندما يريد أن يكسب مشروعيّته لا يحتاج إلى دينٍ معيّن أو دعمِ جهةٍ دينيّة معيّنة، بل كلّ ما عليه هو تقديم الرؤية والمشروع الذي لديه ليكسب تأييد الجماهير، ويبقى نجاحه ومشروعيّته متعلّقة بقدرته ومصداقيته في تحقيق رؤيته ومشروعه المزعوم.
تضمن العلمانيّة للمقدّس (الدين) عدم تلوّثه بدنس السياسة
أمّا الأحزاب التي لا تملك رؤيةً سياسيّةً واضحة لإدارة الدولة، وخطّة حقيقية لإدارة ثروات البلد ومقدراته، بما يتوافق ويصبّ في مصالح المواطنين، وبما يضمن الحياة الكريمة لهم، بل يكون جلّ مسعاها هو تحقيق المطامح والمصالح الشخصيّة والحزبيّة الضيّقة، ولأنّها عاجزة بسبب فسادها، عن تنفيذ رؤية سياسيّة عامة تُدير بها الدولة بصورة إيجابية وإنتاجية، لتكسب من خلال ذلك الشرعيّة في تسنّم مقاليد السلطة.. ولهذا تحاول كسب المشروعيّة والقبول من الناس عن طريق اللجوء إلى الدين مثلاً، لأنّه يمثل الجانب المقدّس في حياة الناس. والعامة من الناس ينجذبون ويحترمون دعاة التقرّب من الدين أو دعاة الدفاع عنه وحمايته، ويطربون إلى الشعارات الدينية الرنانة. وبذلك يحصل مرتزقة الدين هؤلاء على المشروعيّة والمقبوليّة المطلوبتين، ويحصلون أيضاً على الكثير من المغانم والأموال تحت غطاء المقدّس (الدين). وبفضل المشروعية المكتسبة هذه، يسيطرون أيضاً على جميع مفاصل الدولة ومؤسّساتها ويحتكرون جميع مواردها الاقتصادية والإعلامية والثقافية، ويوظّفونها في خدمة مصالحهم الخاصة.
وحين تخرج ضدّهم شرائح من الناس والمجتمع، ممّن أدركوا أساليب هذه الجماعات وحيلها، مطالبين بالتغيير، لا يجدون إلّا القمع وتشويه السمعة، والاتهامات بالعمالة والتمويل من جهاتٍ خارجية، لأجل ضرب الدين والمذهب والعقيدة وتشويهها!
وهكذا يسبّب هؤلاء أيضاً نقل صورة مشوّهة عن الدين والتعاليم والرموز الدينية، ممّا يدفع الكثير من الناس الذين يرون أنّهم محرومون من حقوقهم في العيش الكريم والحصول على ما يمسكون رمقهم به إلى النفور من الدين. وكلّما استمرَّ هذا الحال (استغلال الدين في السياسة)، ازدادَ عدد المعادين لهذا الدين والخارجين منه، بسبب زيادة الفقر وتردّي الأوضاع المعيشية لغالبية الناس والمجتمع، وذلك في الوقت الذي تمتلئ به كروش السياسيين حتى تكاد أن تنفجر.
وفي نهاية المطاف، يمكن القول إنّ العلمانية تضمن للمقدّس (الدين) عدم تلوّثه بدنس السياسة.