غزة من "مدينة" إلى "أوشفيتز"
تساءلت المفكرة الراحلة حنة أرندت سؤالا تتلبّسه روح الاستنكار: كيف يمكن للبشر أن يفعلوا الشّر من دون معرفة أنّه شرّ؟ وذلك خلاصة لما كان يفعله مجرم الحرب النازي أدولف آيخمان في الحرب العالمية الثانية، لكن اليوم نريد أن نتساءل من بعدها: كيف يمكن للبشر أن يفعلوا الشّر مع معرفة أنّه شرّ؟
افتخر وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بأنّ جيشه طوّق غزّة، طوّق المدنيين، ومنع عنهم الماء والكهرباء والإمداد بالوقود والطعام أمام أنظار العالم الذّي صفّق له. لقد خلق غرفه الغازية الخاصة، مطلقاً على من هم بداخلها جملته الشنيعة "حيوانات على شكل بشر"، وهو تطويق لفظيّ "نازيّ" آخر للتقليل من هؤلاء البشر عن غيرهم، فيصبح قتلهم مشروعاً أمام أنظار العالم.
"إنهم مجرّد حيوانات" ستقودهم هذه الجملة التي أصبحت على هيئة سيارة نقل أدولف آيخمان آخر إلى حتفهم، شر جذريّ يخلق عمّالاً بيروقراطيين يفعلون أكثر مما يفكرون، الجملة التّي سينساق خلفها الكثير من المسيطَر عليهم عن طريق الميديا العالمية ليقوموا بارتكاب الفعل نفسه الذي ارتكبه آيخمان ذات يوم، لكن هذه المرّة بالتعاطف الذي يحمل في مضمونه فلسفة "الشرّ التافه"، القبول العام تجاه ارتكاب أشنع جريمة حرب دون أن يعلم هؤلاء الموافقون على إيصال الأبرياء إلى أبواب المعسكر بأنّهم مجرّد أدوات وليسوا ضمير العالم. فأعظم الشرور في العالم يرتكبها أشخاص نكرات أو ليست لهم دوافع ولا قناعات، ولا يرتكبونها لأنهم سيئون بطبيعتهم، بل لأنهم يرفضون أن يكونوا ذوات، وليست لديهم أيّ نوايا لفعل الخير أو الشر، بل كان هدفهم إطاعة الأوامر مثلما شرحت حنة أرندت طبيعتهم.
فهل حمل اليهود عذابهم بدل ملابسهم داخل حقائبهم وهم ذاهبون إلى فلسطين؟ هل حملوه إليها فارين أم ليتخلّصوا منه فيها كمنتقمين؟ هل نرى أعداء يتقاتلون أم جرحى ينتقمون؟ هل نرى مرضى يحاولون بقدر إمكانهم إغلاق تلك الغرف الغازية، والتخلص من شرّهم الجذريّ؟
ينتج الشّر، بحسب الفيلسوف الألماني لابينتز، إمّا من عدم الكمال، وهو شر ميتافيزيقيّ، أو عن ألم، وهو شرّ فيزيقي، أو عن الخطيئة، وهو شرّ أخلاقيّ، ومن ثمّ، فإنّ حديث تحوّل الضحيّة إلى جلاد لضحايا جدد يكون أكثر مشروعية من الحديث عن ضحية يحاول (قدر الإمكان) القضاء على جلاده بممارسة الأفضل لا الأشنع. إنّ الأول الذي يعيد إحياء الجلاد، ما هو إلا إرثٌ لسلطة البشاعة التّي حملتها ذات مغمورة بالشر الميتافيزيقيّ والشر الفيزيقيّ، والآن تحاول أن تستعيدُ براءتها تجاه العالم لا بقتل جلادها، بل بإحيائه، ثم تنظر نحو جلادها الحقيقي، أوروبا تحديداً، فتهزّ رأسها بالموافقة إرضاءً لعجزها عن إنقاذها في تاريخهما المشترك في الماضي.
أمّا هم، المحكوم عليهم بالعجز أثناء عذابهم، فقد حوّلوه لاحقاً حينما نجوا إلى محاولة إنقاذ أنفسهم من مستقبل قد يعيدُ نفسه بأن تسلّقوا كلّ/ أعلى القرارات العالمية، العجز الذي لا يزال يعيش داخل طبقات روحهم يجعلهم يستمتعون بضحاياهم العاجزين. إنّهم بالرغم من كلّ تلك السلطة التّي وصلوا إليها، لم يستطيعوا إطلاق سراح أياديهم المغلولة في أعماق دولتهم، فيظهر للعالم على شكل جرائم تجاه الأطفال والنساء، جرائم تجاه الضعفاء أنفسهم. إنّ الضعيف وجب قتله في أعينهم، الضعيف يذكرهم بضعفهم ومدى إمكانية اقترابهم من النهاية غير المرجوة، فعلينا إذن عدم الإطاحة بتعجبنا الأبديّ في نهاية سؤالنا: "كيف أمكن لشعب وقع ضحية قسوة لا توصف أن يصبح هو نفسه جلادًا لشعب آخر؟".
لقد قدّم هذا العالم لضحاياه في الأمس ضحايا جُدد لينتقم منهم ممّا فعلوه فيه
لقد منح العالم (جرّاء الخجل من جرائمه) الشّفاعة لإسرائيل والدّلال لتقُوم بأخذ أيّ لعبة كانت من العالم وجعلها لعبتها، حتّى لو تطلّب ذلك أخذها من يد طفل آخر، عليهم أن يدعموا ملكيتها للأشياء في الوجُود، وعلى الآخرين الإيمان بذلك، الإيمان الذّي يصلُ إلى حدّ توقعي أنّ تلفاز بيتي الذي لطالما اعتقدتُ أنّه لي في الأخير ما هو إلّا تلفازها. لقد قدّم هذا العالم لضحاياه في الأمس ضحايا جُدد لينتقم منهم ممّا فعلوه فيه، قدّم لهم (كما هو متوّقع) المزيد من الألعاب المُدماة، وها نحن اليوم نشاهد كيف يتصاعدُ الدّخان من الذات التي لا تزال تحتفظ بجثث محروقة في كيانها، وباحتراقها المستمرّ كغضب مبرّر له مسبقاً تتمادى في ارتكاب الجرائم. لقد أعادت تقيؤ معسكر أوشفيتز بأن حاصرت غزّة، أكبر سجن مفتوح يجتمع فيه أكبر عدد من الفلسطينيين. إنّها لا تقتل الأبرياء على أنّهم أبرياء فقط، بل تُحاول إنقاذ ضحاياها في الحرب العالمية الثانية بارتكاب مجازر أكبر بشاعة ممّا سلّط عليها، وبمساعدة العالم الذي خلق بإجرامه كياناً مشوهاً يصعبُ السيطرة عليه، كيانٌ التهمه في الأخير عن طريق عدم الامتثال لقوانينه وأوامره، واعتبرت ساحة فلسطين، وغزة تحديداً، وسيلة لا بدّ منها لإفراغ الروح الشريرة هنالك. هكذا بلفظ لاهوتي، أقرب إلى منطق وزير خارجية أميركا، حينما قال: "لم أحضر اليوم كوزير خارجية أميركا، بل كيهودي طردوا جدّه". وربّما لا ينفع مع هؤلاء المرضى، كما تقول الأساطير حينما تحاول التّخلص من الروح الشريرة التي تلبستك، غير حل إعادتها إلى قبرها، والقبر هنا ما هو إلا أوشفيتز نفسه، وجب إعادة الرائحة التي حملوها إلى أفرانها وغرف غازها، وذلك بتوجيه الجريمة إلى المجرم عينه، ففلسطين ليست ألمانيا، وأوشفيتز ليس غزة، والسير على حدود هذه المفاهيم كلّها هو سير بجوار الخرافات والأكاذيب وأزمات الذات على الصعيد الوجودي، والميتافيزيقي والنّفسي، فكلهم يريدون العودة إلى البيت، لكن أي بيت يعود إليه أشخاص بلا عناوين محدّدة؟
لكن لماذا لم يدافعوا عن أنفسهم؟
تتساءلُ حنة أرندت في خيبة ممزوجة باللّوم عن اليهود الذين لم يبدوا أيّ مقاومة تجاه تلك الجرائم. السؤال الذي أزعج كثيرين منها وقتذاك، ويضع أمامنا اليوم معرفة طفيفة تجاه استنكارهم لمقاومة الفلسطينيّ النابعة من الشرّ الأخلاقي، الخطيئة التّي وجب التستّر عليها، لماذا يدافع الفلسطيني عن نفسه؟ بدل لماذا لم يُدافع اليهوديّ عن نفسه؟ فالمنتظر منه غير الذي يُرادُ التّخفيف به من تلك المأساة، إذ كان لا بدّ عليه أن يستسلم مثلما استسلم هو في الحكاية القديمة، عليه أن يُبعث مثلما حدث تماماً في التاريخ، أن يترك مستسلم البارحة يقُوده إلى المحرقة، يقوده من مدينة غزّة إلى معسكر غزة، يقوده من "المدينة" إلى "أوشفيتز".. إن حراكه يوقظ جراح سؤال حنة أرندت، حيث يتقاسم الضحايا جريمة الجلاد نفسها، لقد ساعدُوه من حيث لا يدرون على التّخلص منهم بسرعة، وبسهولة فائقة، وهذا ما يحرجُ أطياف الانتقام، إنّ في عودتهم إلى مكان آخر بغية تصفية حساباتهم، لم يجدوا الضّحية المستسلمة نفسها، فاكتشاف مقدرة الضّعيف على المُقاومة هو اكتشاف مؤذٍ يحملُ فوق عاتقه إدانة مباشرة للضّحية المنهزم أمام قلّة حيلته فحسب، بل وأمام وجوده كإنسان وخسارته لأبسط سمات الذات: "إمكانية الدفاع".