غزة عارنا الأزلي

27 ديسمبر 2023
+ الخط -

أتذكر عندما قرأت روايتَي "الخبز الحافي" لمحمد شكري و"شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف، في سنوات الجوع والاستبداد، كنت أبكي وألعن القرن العشرين وناسه، قرن الحرية وحقوق الإنسان، مردداً في نفسي: "أي عار لهذا القرن الذي مازال فيه إنسان جائع وآخر تلتهمه آلة التعذيب الفرعوني؟".

كنت أعتقد أن ذلك من بقايا القرون السابقة، لكن يبدو أنني كنت أحيا على أمل وهمي، كيف لا ونحن نرى غزة الجريحة.

أعتقد أنه لا شيء جدير بالكتابة عن غزة إلا نشر غسيلنا المشبع بالأوساخ والعفن والروائح الكريهة، نحن أبناء هذا الزمن، أبناء القرن الواحد والعشرين في أي ركن من أركان الأرض، ونحن نشاهد الموت المعشش في كل ناحية من غزة، القبر الكبير، التدمير الذي لم تشهده البشرية المعاصرة، البنايات المسواة بالأرض، الأشلاء المتناثرة هنا وهناك: أيدي وأذرع، أقدام وأرجل مبتورة، رؤوس مسطحة وبلا وجوه، أجساد مسجاة على بطونها مغمورة بالغبار، أطفال ونساء ورجال هاربون من القصف بوجوه معفرة بالتراب، صراخ الأطفال والنساء والرجال فوق الأنقاض، نداءات استغاثاتهم، نبشهم بالأظافر بحثاً عن جيران وأقارب، عربات الإسعاف المجرورة بالحمير، الجنازات التي لا تتوقف، المقابر الجماعية، الجثث الملفوفة في البلاستيك، الأرقام الشاهقة للقتلى والجرحى، ما تخفيه الأنقاض، البرد والجوع والعطش والآلام المتعددة لمن تأجل موعد موته. الأرض الحمراء بدم الشهداء.

غزة... المشهد الحي الذي لا يحركنا، المشهد الذي يكشف موتنا ونهايتنا. لسنا اليوم إلا روبوتات، صنيعة آلات، حصيلة ذكاء اصطناعي، لا نرى العالم إلا أمكنة وأحداثاً افتراضية. صور غزة أمامنا ليست إلا لوحات بالأبيض والأسود في معرض قديم، أو هي صور في فيلم خيالي في كوكب آخر تُشاهد للتسلية وتمضية الوقت.

صور غزة مجرد معطيات لا يراها الذكاء ولا خوارزميات البرامج والحواسيب، لا يراها عالمنا، عالم الآلة والأزرار، عالم الأخشاب والمعادن. صور غزة صنيعة ألعاب ولاعبين، مرضى ومهووسين، صم وعميان.

صنيعتنا جميعا كلٌ بطريقته وأسلحته الرثة من القنابل الى الصمت واللامبالاة. لذلك هي عارنا جميعا. عارنا الأزلي الذي لن يُمحى. عارنا الذي سيتعزز لاحقا على يد الأحفاد المعتذرين عن بدائيتنا وخيانتنا ولاإنسانيتنا، عارنا الذي سيُسجل في الكتب وبالصوت والصورة، وهو ما سيخلدنا مذمومين مدحورين من التاريخ والإنسانية.