غزة تفضح أوهام ثنائية النماذج "الحضارية" في الإقليم
في السنوات الأخيرة، أضيف بعد ثقافي حضاري على الخطاب المرافق لصراع المحاور في المنطقة، وقد تمحور ذلك في مواجهة بين سردية "الكرامة" التي اعتمدها محور الممانعة بقيادة إيران وسردية "الازدهار" التي روّج لها المنضوون ضمن محور الاعتدال العربي بقيادة السعودية.
وقد جرى تخيير شعوب المنطقة، لا سيما من قبل محور الاعتدال العربي، وبنظرة لا تخلو من المانوية السخيفة ومن التسطيح الفكري المرافق لها، بين النموذجين الحضاريين، تحت مقولة: "إمّا دبي، وإما الضاحية"، وكأن لا إمكانية لنماذج أخرى خارج هذين النموذجين.
كان الكلام من نوع: إنّي خيرتك فاختاري، ما بين الفقر والجوع والانهيار وتلاشي البنى التحتية والمرض والتخلّف والماضوية، وبين الإعمار، والحداثة، والازدهار، والنجاح، والغنى، والوفرة، والمستقبل! وذنبك على جنبك!.
جاءت الأحداث المرافقة لعملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين أوّل الماضي، ثم حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على غزة، كي تعرّي الأوهام التي تقوم عليها هذه الثنائية، أي هذا التخيير بين النموذجين، وكي تفضح محدودية النظرة السياسية والثقافية الكامنة وراء هذه السردية المانوية، وكي تظهّر عبثية كلّ هذا النقاش.
ثبت أنّ نموذج دبي/الرياض هو نموذج غير متوازن الرؤية، لأنّه غضّ الطرف عن مظلومية شعب تشكل قضيته القضية المركزية في المنطقة التي يطمح أصحاب نموذج دبي/الرياض أن يعمّموا نموذجهم فيها
ترافقت الحرب على غزة مع إطلاق فعاليات "موسم الرياض" في السعودية، فكانت أولى نتائج هذه الحرب سقوط نموذج الرياض أمام نموذج غزة، إذ يكفي تصفّح وسائل التواصل والإعلام كي نلاحظ كم أصبح نموذج الرياض وموسمها مدعاة إدانة، وتهكّم، وغضب، وشعور بالعيب، أمام نموذج غزة.
ومرد ذلك، ليس بالضرورة لأنّ نموذج الرياض/دبي سيئ بحدّ ذاته، فهو نموذج له حسناته الكثيرة، الاقتصادية والثقافية، التي لا ينفع إنكارها، بل لأنّه أثبت أنه نموذج مفصول عن واقع منطقة يطمح أصحابه للتأثير بها ولريادتها عبر نموذجهم، لا سيما عبر تصدير هذا النموذج لبقية بلدانها.
بكلام آخر، وعلى ضوء حرب إبادة شعب عربي جارية في غزة، ثبت أنّ نموذج دبي/الرياض هو نموذج غير متوازن الرؤية، لأنّه غضّ الطرف عن مظلومية شعب تشكل قضيته القضية المركزية في المنطقة التي يطمح أصحاب نموذج دبي/الرياض أن يعمّموا نموذجهم فيها.
وهكذا، بسبب إهمالهم القضية الفلسطينية وتخلّيهم عنها، لا سيما من خلال مشاريع التطبيع التي تقفز فوق حقوق الشعب الفلسطيني وتُشيطن حقه في مقاومة الاحتلال، بتر أصحاب نموذج الرياض/دبي قسماً أساسياً وكبيراً من قدرة نموذجهم على جذب الشعوب العربية. وهذا الجذب أمر ضروري لتعميم نموذجهم في الإقليم بوجه النموذج الإيراني، فاسحين بذلك المجال لغريمتهم إيران للاستثمار في القضية الفلسطينية كوسيلة للتوّسع في الإقليم ونشر نموذجها الثقافي فيه.
يجب استيلاد نموذج يتوّخى الازهار دون التفريط بالحق، نموذج يناصر الحق دون الاستثمار السياسي فيه لتحقيق مآرب توّسعية أنانية لجهة إقليمية على حساب الآخرين
الفلسطينيون يحبون الحياة، وهم أكثر من يستحقها، ولكن إذا خُيّروا بين الحياة تحت ذلّ الاحتلال والحصار والعنصرية والاعتقال والتهديد اليومي بالقتل، أو الموت، يقول لسان حالهم: "الموت ولا المذلة". يكفي سماع من نجا من قصف مبناه، أو مستشفى، أو مدرسة، وهو يتكلّم واقفاً على الردم والأشلاء، كي يفهم من يريد أن يفهم، أنّهم شعب يريد العيش بحرية، مهما كلّف الثمن. ولكن هذا أمر لا يستطيع فهمه كثيرون في العالم.
وعليه، بين نموذج القوي، الغني، المترف، من جهة، ونموذج المظلوم، الفقير، المعدم، من جهة أخرى، اختار العرب بأكثريتهم الساحقة النموذج الثاني، ليس لأنّهم يكرهون الغنى، أو يبغضون الفرح، أو يعادون الحياة، لا، إطلاقا، بل لأنّه بين نموذج غضّ الطرف عن الحق والقفز فوقه، ونموذج الحق ونصرته؛ بين غياب المعنى، والمعنى؛ بين الحياة الميتة بسبب موت الحق، وبين موت أصحاب الحق قتلا، الذي يحيي الحياة بإحياء معاني العدل والحق والنضال فيها، اختار العرب بأكثريتهم الساحقة... غزة الحق.
هذا لا يعني أنهم بذلك ينجذبون حكماً للنموذج الإيراني في الإقليم، أي نموذج الضاحية، القائم على الاستثمار في قضايا الحق، كالقضية الفلسطينية، للتوّسع في الإقليم، والذي لا يعد إلا بالحروب، بل يقولون إنّهم يرفضون هذه الثنائية التي تفرض عليهم الاختيار فقط بين نموذجين، وأنهم يتوقون لنموذج خارج هذه الثنائية ومانويتها، نموذج يتوّخى الازهار دون التفريط بالحق، نموذج يناصر الحق دون الاستثمار السياسي فيه لتحقيق مآرب توّسعية أنانية لجهة إقليمية على حساب الآخرين.
الازدهار ليس مضاداً للحق، بل مكملاً له، كما أنه دون دعم التحرّر الوطني من الاحتلال ومحاكاة مظلومية الشعوب العربية وآلامها وآمالها في هذا الخصوص أيضا، يبقى التحرّر الثقافي مجرّد مظاهر واهية
لا شيء يمنع الدول العربية من الجمع بين إكمال مسيرتها في التطوّر والازدهار، بالإضافة إلى دعم الشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة للاحتلال، بكلّ الوسائل المتاحة، المادية، والسياسية، دون أن يعني ذلك إطلاقاً المشاركة المباشرة في القتال، وأن يعيد العرب بذلك ملء الفراغ الذي تركوه مشرعاً لإيران، وذلك بدل أن يتنصلوا من مسؤولياتهم تجاه الشعب الفلسطيني، دافعين بذلك المقاومة الفلسطينية إلى أحضان إيران، وتاركين القضية الفلسطينية لقمة سائغة للاستثمار في فم إيران، ثم يلومون الفلسطينيين ومقاومتهم على ذلك بدل أن يلوموا أنفسهم أولا!.
بتعبير آخر، الازدهار ليس مضاداً للحق، بل مكملاً له، كما أنه دون دعم التحرّر الوطني من الاحتلال ومحاكاة مظلومية الشعوب العربية وآلامها وآمالها في هذا الخصوص أيضا، يبقى التحرّر الثقافي مجرّد مظاهر واهية تندرج ضمن عناصر "عصر التفاهة"، ولا يصلح لأن يكون نموذجاً قابلاً للتصدير. أمّا السلام، فلا يمكن أن يكون على حساب الحق.
إنّ الخروج من سجن ثنائيات النماذج الثقافية والحضارية المتناقضة نحو رحابة البراغماتية والواقعية اللتين تسمحان بتخطّي التفكير المانوي المحدود، أي بعيدا، من جهة أولى، عن الأيديولوجيا والدوغماتية وأوهامهما، ومن جهة أخرى، دون القفز فوق الواقع المتوّخى التأثير فيه، هو شرط أساسي أوّل لبناء أي نموذج حضاري قابل للجذب، فالتصدير في الإقليم.
أما الشرط الأساسي الثاني، فهو أن يكون النموذج الحضاري قائماً على الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، بعيداً عن خطاب ازدواجية المعايير الذي تعتمده كثير من دول الغرب في هذا الخصوص، وهو عنصر يشترك النموذجان المتصارعان حالياً في العالم العربي في تغييبه.