عن معلمي الذي سجنه حافظ الأسد
مصطفى الحسين، معلمي في المرحلة الابتدائيَّة في مادة العلوم الاجتماعيّة في مدرسة النهضة الإسلاميّة عند أطراف التلة الشرقيّة في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية، وهي المدرسة التي تحوّلت إلى فرع المخابرات الجويّة الذي فُجّر بسيارة مفخخة يوم الإثنين 30 إبريل/نيسان 2012 ما أسفر عن مقتل العميد، علي يوسف، رئيس فرع المخابرات الجويّة في إدلب وتدمير القسم الأكبر من مدرستي الابتدائيّة بفعل التفجير الذي كان أشبه بزلزال هزَّ مدينة إدلب صباح ذلك اليوم، وهذا الأمر أحزنني كثيراً، أقصد تدمير مدرستي. ومن المفارقات المذهلة في دلالتها أنّ أغلب أفرع المخابرات في مدينة إدلب كانت في الأصل مدارس.
معلمي في مدرسة النهضة الإسلاميّة، مصطفى الحسين سجنه حافظ الأسد ثمانية عشر عاماً (1980 - 1998) بتهمة الانتماء إلى المكتب السياسي في الحزب الشيوعيّ السوريّ، أو بما بات يُعرف بـ"جماعة رياض الترك" والتهمة حقيقيّة، فقد كان فعلاً من أعضاء المكتب السياسيّ في هذا الحزب المحظور (الدولة السورية في تلك الأيام كانت تعترف فقط بالحزب الشيوعيّ السوريّ جماعة خالد بكداش، أحد أحزاب الجبهة الوطنيّة التقدميّة).
كان مصطفى الحسين ملاحقاً أمنيّاً ومختفياً عن أنظار المخابرات السوريّة خلال الانتفاضة أو الثورة السوريّة التي قادها حزب "الإخوان المسلمين" في ربيع عام 1979، والتي جوبهت بعنف شديد وتغوّل صارم من قبل فرق الجيش السوريّ (الفرقة الثالثة بقيادة شفيق فيّاض مثلاً) وأفرع المخابرات السوريّة المتعددة.
كنتُ أظنُّ، وأنا في صغري، أنّ أهل بلدة الفوعة "شيوعيَّة مش شيعة" تحت تأثير مصطفى الحسين الشيوعي
قد يسأل سائل: كيف استطاع مصطفى الحسين الاختباء في مدينة صغيرة كلّ تلك الفترة؟
يا سيدي أفرغ خزّان الماء من مائه، والمبني في الأصل من حجر على سقيفة حمّام بيته في المساكن الشعبيّة الجنوبيّة التي قصّ شريط افتتاحها عام 1970، محافظ إدلب آنذاك، الرفيق عبد الله الأحمر. وصار مصطفى الحسين يختبئ في هذا الخزان بعد أن موَّه باب السقيفة، فصار الباب والحائط سواء. وكان مصطفى الحسين كلَّما شعر بأنّ دورية المخابرات اقتربت من مدخل البناية يصعد بلمح البصر، ويختبئ في خزان الماء الفارغ قبل أن يفتحوا لهم باب المنزل. واستمر الأمر فترة لا بأس بها. ولكن دوام الحال من المحال كما يُقال، وسبحان مُغيّر الأحوال، فقد كان عنده جار "الحيط ع الحيط" فلسطيني المولد من مهجري عرب 1948، وهذا الجار من الغيورين على مصلحة الوطن ويُحب فعل الخير لوجه الله. لن أذكر اسمه الآن، لأنه مات رحمة الله عليه، وقد أوصانا السلف الصالح بذكر محاسن موتانا. كما كان شاعراً، نعم، سمعتُ منه قصيدة بعنوان "فاض نهر في الشمال" كان يكتب الشعر والمسرحيات، ويُمثل أيضاً على خشبة مسرح الخنساء في مدينة إدلب!
وذات مساء خابر دورية للمخابرات باتصال على الهاتف الأرضي وهو متأكد مائة في المائة من أنّ جاره مختبئ في بيته الآن، وقد سمع صوته من خلال الجدران. جاءت دورية المخابرات إلى البيت، ووجدت مصطفى الحسين في خزان الماء الفارغ:
فكانَ ما كانَ مما لستُ أذكرهُ/ فظنّ خيراً ولا تسألْ عن الخبرِ.
ورحم الله الشاعر العباسي، ابن المعتز على هذا البيت الأنيق.
ترك مصطفى الحسين مخطوطة من ألف صفحة عن الصراع الطبقي في الإسلام
مصطفى الحسين من بلدة الفوعة، وأهلها شيعة نزحوا عن ديارهم نتيجة الحرب السورية صيف عام 2018، والفوعة وكفريا بلدتان متجاورتان في الأرض والمذهب، وتقعان إلى الشمال من مدينة إدلب. وكنتُ أظنُّ في صغري أنّ أهل "الفوعة" "شيوعيَّة مش شيعة" تحت تأثير هذا المُعلّم الابتدائي. وكان مصطفى الحسين صديقاً لوالدي، يسهر عندنا سهرات طويلة جداً وخاصة في الشتاء، يخوض مع والدي، راشد دحنون، حتى الركب في حديث السياسة الذي لا ينتهي، ويعبق أثناء النقاش بيت الضيوف برائحة التبغ المميزة، والتي تبقى في هواء الغرفة ومقتنياتها لأيام، فقد كان مصطفى الحسين مدخناً شرهاً، وأبي لم يُدخن ولو سيجارة واحدة في حياته.
بعدما خرج مصطفى الحسين من سجنه رأيته في خريف عام 1999، وكان يجلس على الرصيف أمام دكان والدي يشربان الشاي ويتحدثان في السياسة، كما كانا في عهدهما السابق، وكان مصطفى الحسين يُدخن سجائر "حمراء قصيرة" المشهورة في سورية تلك الأيام. سألته: "كيفك". قال: "مليح". كان قد تغيَّر كثيراً والدُّنيا تغيَّرت هي الأخرى. ثمَّ بعد حين سمعت من والدي بأنه مات ودفن في بلدة الفوعة. وقد ترك مصطفى الحسين مخطوطة من ألف صفحة عن الصراع الطبقي في الإسلام. حاولت أن أستفسر من ابنه مالك (قُتل في ما بعد أثناء الحصار الطويل لبلدة الفوعة أيام الثورة السورية المستمرة) عن مصير المخطوطة، بعدما جمعتني به مصادفة سعيدة في مكتبتي في زقاق المسيحيين قرب كنيسة الروم الأرثوذكس يوم الثلاثاء 13 مايو/ أيار 2014، وقد باح لي بخبر مفرح فحواه أنّ المخطوطة موجودة عند صديق له يعمل على ترقينها على جهاز الكمبيوتر وستصدر في كتاب قريباً. والظاهر أنّ كلمة "قريباً" في سورية لها دلالات غير معناها ولا نُدرك ذلك، وهي أبعد في الزمن مما نأمل ونطمح. والمثل يقول: "لا تْقول كمّون حتى تصرّ عليه"، أي تجعل الكمّون في صرّة!