عن مؤتمر دراسات القدس
تتنوّع مساحات الاشتباك مع الاحتلال ومقاومته ومواجهة روايته، ومن أبرز هذه المساحات هي "المعرفة"، إذ تشكل مسارًا من الاشتباك المباشر مع الاحتلال، ليس في سياق تفنيد روايته فقط، بل في سياق المضي قدمًا في بناء رؤية متكاملة، تكون المعرفة مدماكًا أساسيًا فيها، وهي خطوةٌ أساسية لصناعة الإنسان القادر على تحمّل أعباء هذا الطريق الوعر، ومن ثمّ تأسيس القاعدة الصلبة التي تستطيع حمل القدس وفلسطين، والمضي في طريق التحرير، الذي سيكون أحد أسباب نهضتنا بكلّ تأكيد.
وفي سياق البناء المعرفي، شُرّفت بالمشاركة في "المؤتمر الأول لدبلوما دراسات القدس" في الخامس من أغسطس/ آب 2023، وقد حمل "الدبلوم" اسم رائدٍ من روّاد العمل للقدس في الأردن، هو الدكتور إٍسحق فرحان، رحمه الله تعالى، بتنظيم من المؤسسة الرائدة التي أسّسها المرحوم في العاصمة الأردنية عمّان، وهو ملتقى القدس الثقافي.
شاركت في المؤتمر كوكبة من المتخصّصين والخبراء والأكاديميين، وعُقد المؤتمر بالشراكة مع كلية الشريعة في جامعة العلوم التطبيقية في العاصمة الأردنية عمان، وشمل المؤتمر تخريج طلاب الدبلوم، إضافةً إلى جلسةٍ أساسية قدّمت فيها مجموعة من الخبراء أوراقًا تناولت علاقة الأردن بالقدس المحتلة، ومستقبل القدس وواقع المسجد الأقصى، تلتها جلسات أُخرى استعرض فيها طلاب الدبلوم أبحاثهم النهائية، وشهدت جلسات المؤتمر نقاشًا ثريًا وحضورًا جماهيريًا لافتًا، سأمرّ على بعض تفاصيله لاحقًا.
وقبل المضي في الحديث عن بعض مشاهداتي وانطباعاتي في هذا المؤتمر، لفتتني من الكلمات التي أُلقيت كلمتان، الأولى، كلمة رئيس ملتقى القدس الثقافي الدكتور محمد البزور، وتناول فيها الهدف الرئيسي للملتقى من إطلاق هذا الدبلوم، عبر التركيز على قضية الدراسات المتخصّصة المتعلقة بالقدس، مشيراً إلى أنّ هدف الدبلوم الرئيسي "صناعة باحثين أكفاء لتوظيف العلم والمعرفة من أجل تحرير الأرض والمقدّسات"، وقد أشار إلى أنّ الملتقى يخطو بشكلٍ مباشر وجديّ "من مستوى نشر المعرفة إلى مستوى إنتاجها".
أما الكلمة الثانية فهي لمدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في بيروت الدكتور محسن صالح، وهو رئيس اللجنة الاستشارية لهذا الدبلوم، حيث سلّط الضوء على ضرورة أن تكون لدراسات القدس أولوية في هذه المرحلة، وأنّ هذه الدراسات مرتبطة بسياق "فقه النوازل"، وأنها جزءٌ من تثبيت هوية الأمة وهوية الأرض المقدسة المحتلة، وإسهام هذه الإنتاجات في "معرفة العدو وجرائمه ومخاطره على الأمة". وعلى الرغم من هذه الأهمية، إلا أنّ الواقع العام في الأمة لا يُشير إلى اهتمام الجموع بها، إذ نشهد حالةً من "ضياع البوصلة وتشتت الاهتمامات"، بحسب تعبير الدكتور، وأثّر هذا التشتّت على انشغال الأمة بالأمور الثانوية، على حساب القضايا الكبرى، التي لم تعد تجد إلا الاهتمام القليل، في مقابل سيلٍ متصاعد من "التفاهة والفن الهابط"، وانعكاسات هذا التردّي على مشروع الأمة النهضوي، وقد ختم كلمته بأنّ "التقدم في مشاريع النهضة والصعود الحضاري، يتطلب أن تكون القدس في عمق اهتماماتنا".
استطاع المؤتمر أن يحقّق المعادلة الصعبة، بأن يقرّب الناس من هذا الحقل المعرفي المتخصّص، وأن يكونوا على تماسٍ مباشر مع قضايا القدس
هذه المضامين السابقة هي التي كانت ناظمة في سيرورة هذا الدبلوم ومن ثم المؤتمر، وعلى الرغم من متابعتي الشخصية للدبلوم عن بعد والاطلاع على ما تضمنه، إلا أنّ المؤتمر أجلى بعض التساؤلات، وأظهر نموذجًا يجب الاقتداء به والبناء عليه، في سيرورة مراكمة الخبرات وتطويرها، وفي النقاط الآتية أسجل بعضًا من انطباعاتي حول المؤتمر، وهي:
(1): الجدية والعمق، وقد تجلّيا في العدد الكبير من الساعات التي خاضها الطالب في أشهر الدراسة، وقد تجاوزت الـ300 ساعة، وفي تنوّع المسارات المعرفية المرتبطة بالقدس من التاريخ ومواجهة الاستعمار، وصولًا إلى الواقع والفن الإسلاميين وغيرها من المواضيع. وقد انعكس هذا الثراء على مضامين الأوراق التي أعدها الطلبة وقدموها في المؤتمر، فقد كانت عميقة رصينة، وهي دراسات علمية ومنهجية وموضوعية، أشرفت عليها علميًا وحرّرتها هيئة علمية لها مكانتها وموقعها ورصيدها من الدراسات المتصلة بالقدس والأقصى.
(2): وبما يتصل بالنقطة السابقة أيضا، أظهرت الأوراق المقدمة أنّها حصيلة عمل دؤوب وجهود مضنية، وعمق في معالجة الأفكار والقرب من قضايا القدس ومسجدها المبارك، ورؤية واضحة بالمساحات الملحة في مواجهة تغوّل الاحتلال وأذرعه. إضافةً إلى قدرة الفريق المشرف على البرنامج على تذليل العديد من الصعوبات أمام الدارسين، خاصة أنّ العديد منهم من خلفيات دراسية علمية، ما يعني أنهم لم يشتبكوا مع العمل البحثي عامة، ومع دراسات القدس بشكلٍ خاص، إلا أنّ النتيجة النهائية فاقت توقعاتي، وتستأهل بعض الأوراق أن تنشر منفردة، لتسليط المزيد من الضوء عليها وخدمتها.
(3): حفل المؤتمر بحضورٍ نخبوي مهمّ، ومشاركة قامات، إن في بنية الدبلوم والإشراف عليه، أو في تقديم أوراق في الجلسة الافتتاحية، إضافةً إلى الحضور والمشاركة في النقاش خلال الجلسات. وممن حضر وشارك، وهو تعداد لمن أتذكرهم في وقت كتابة هذه التدوينة وليس حصرًا لجميع المشاركين، الدكاترة الكرام علي محافظة، ووليد عبد الحي، وعبد السلام فندي طلال وخالد العويسي وأحمد الرقب، وصالح الغزاوي، ولفيفٌ من العلماء، وغيرهم الكثير من الأعلام والرموز والمتابعين والمهتمين.
(4): وعلى الرغم من هذا الحضور النخبوي البارز، والقامات التي شاركت فيه، استطاع المؤتمر أن يحقّق المعادلة الصعبة، بأن يقرّب الناس من هذا الحقل المعرفي المتخصّص، وأن يكونوا بتماسٍ مباشر مع قضايا القدس، فقد شهد المؤتمر حضورًا مهيبًا، حتى غصّت القاعة بمن حضر، مع غلبة عنصر الشبان والشابات عليه، ولم يتراجع هذا الحضور على الرغم من امتداد جلسات المؤتمر إلى ساعاتٍ عدّة، فقد بقي الحضور كثيفًا حتى الساعة الأخيرة منه، وهو أمر لم أشهده شخصيًا في أي مؤتمرٍ سابق، وهي نقطة نجاح لملتقى القدس الثقافي القائم على المشروع، وهو مما يُشهد له ولفريق التنظيم.
الفِرق التي نظمت المؤتمر من المتطوعين، ما يجعل الاحترافية نقطةٌ إضافية أُخرى تُحسب لهم
(5): وحول جهود الفريق في تنظيم هذه التظاهرة المعرفية، فقد كان التنظيم متقنًا، مراعيًا لدقائق المؤتمر وتفاصيله، وقد حرص فريق الملتقى على كلّ خطوة، من أماكن الاستراحة وأوقات الجلسات وانضباطها، مرورًا بالاستقبال والتسهيلات المختلفة للحضور، وهو بكلّ تأكيد تحدٍ مهول، خاصةً أمام حجم الحضور وتنوّعه، وهو أيضًا ثمرة أسابيع من الجهود المضنية، ومما يزيد المرء انشراحًا وفرحا أن أشير إلى أنّ الفِرق التي نظمت المؤتمر من المتطوعين، ما يجعل الاحترافية نقطةٌ إضافية أُخرى تُحسب لهم.
(6): التوصيات الختامية والمقترحات تُشكّل خطة عمل كبيرة جدًا، ولكنها بكلّ تأكيد تفكير في سياق واضح وعميق وأهداف منشودة كبرى، لها ما بعدها، تتسق مع رؤية المؤتمر ومساحات عمله، وما ينجزه الملتقى في سياق نشر المعارف المقدسية ومن ثم بنائها.
أخيرًا، المؤتمر من أكثر الفعاليات التي حضرتها تأثيرًا، فهو كما وصفه أحد كبار الباحثين الذين شاركوا فيه: "نموذج لعملٍ كبير"، ولكن التحديات أمام الدبلوم ليست قليلة البتة، فعلى قدر الآمال المعلّقة عليه، ستكون أمامه صعوبات ومحطات، إن في الاستمرارية بالزخم والرؤية نفسها، أو في تطويره ليكمل سيرورة المراكمة والتطوير، أو في تموضعه في مشروع النهوض الحضاري، وإعادة تصويب البوصلة نحو القدس والأقصى، والإسهام في حقل الدراسات الأكاديميّة الجادة، ولو لم ينحصر هذا الإسهام في الأوراق والمضامين فقط، بل إسهامٌ في جزئية أكثر حاجة وضرورةً في هذا الحقل، وهو صناعة الباحث المتخصّص، وأن يُكمل هؤلاء مسيرتهم، ليكون الدبلوم خطوة إلى الأمام، وليس خطوة الختام.