عن قصيدة في مديح الظل العالي

20 اغسطس 2023
+ الخط -

كان يعد الشّعر في العالم العربي من أهم الركائز التي تشكّل الهُويّة الذاتيّة وملامحها وصولًا إلى كينونة الجماعة والدولة (الوطن والأرض والقضية)، وبدأ يتلاشى هذا الدور الأصيل من الشعر شيئًا فشيئًا.

نظرًا لقلّة الاهتمام به، وصعود الأجندة الاستعمارية والجهل على أكتاف الفكر العربي. مع مرور الوقت باتجاه العصر الحديث، استطاع كثير من الشعراء التشبث بالكتابة عمّا يلج في نفوسهم الذاتية والاجتماعية والسياسية، من أهم هؤلاء الشعراء، الفلسطيني محمود درويش، حيث ولد من رحم المعاناة الفلسطينية، ورضع الأسى الجماعي دفعةً واحدة، واستطاع أن يتفرّد في أسلوبه للتعبير عن هذا الأسى وهذه المعاناة.

من الجدير بالذكر أن أهم قصائده التي لم تكن طفرة حماس، قصيدة "مديح الظل العالي"، تلك الملحميّة، التي بيّنت كلماتها، في تلك المرحلة، صوتَ القضية الفلسطينية الباهت والمخذول وفي ذات الوقت القويّ المستقل.

هذه القصيدة الملحمية، ذات لغة عميقة سلسة قابلة لتأويلاتٍ كثيرة، وتملأها الصور الشعرية، كما تم توظيف الأساطير فيها بشكل منطقي

"قلنا لبيروتَ القصيدة كلّها

بيروت قلعتنا، بيروت دمعتنا"

لا يمكن الفصل بين الشاعر والأحداث التي تدور في مكانه وفي ذهنه. لذا، يمكن القول: إن درويش، بهذه اللغة المباشرة والسلسلة، بنى أساسًا عاليًا لبيروت في هذه القصيدة. وهذا الأساس قد جاء نتيجة أحداث وقعت فيها، بعدما وقعت في قلب الشاعر والفلسطيني. آنذاك، كانت منظمة التحرير الفلسطينية تشكّل صفوفها من جديد في بيروت، بعد طردها من الأردن؛ نتيجة خلافات "أيلول الأسود". بيد أنها أَخذت تتمركز في بيروت كقلعة. لكن ما حصل بعدها من اجتياحٍ "إسرائيليّ" وحصار بالقذائف والطائرات، أدى إلى إضعاف هذه القلعة رغم صمودها.

"أينما ولّيتَ وجهكَ، كلُّ شيءٍ قابلٍ للانفجار"

"القمح مرٌ في حقول الآخرين"

"كم كنتَ وحدك تنتمي لقصيدتي"

"لا برّ إلا ساعداك"

"فاظهرْ مثل عنقاء الرّمادِ من الدّمار"

"واسحب ظلالك من بلاط الحاكم العربيّ؛ حتى لا يُعلّقها وسامًا".

يتجلى في تلك المفردات شيئان: الأول، محاولة درويش دمج القضية الفلسطينية وترميزها في شخصٍ واحد يتمثّل بالمخاطَب (كن، فاظهر)، وعلى ما يبدو من عنوان القصيدة، أن المخاطَب هو ذاك الظّل العالي الذي قد يكون قائدًا أو حاكمًا، والحكّام كان البعض يعتبرهم أنهم "ظلُّ الله على الأرض"، ولكن المرجّح أن الظل العالي ليس سوى رمزٍ شموليّ، يشمل الفلسطيني وحده لا شريك له. أما الشيء الثاني، فحرص درويش الشديد على أن يُظهرَ الفلسطينيّ على حقيقته بقضيته الفرديّة، تلك القضية التي كانت في أساسها قوميّة عربيّة، تنتقلُ من لسانٍ إلى لسان، ومن سلاحٍ إلى سلاح، ومن مكانٍ إلى مكان؛ ثم تحوّلت بعد خذلان الأسلحة، وفقدان الأمكنة، وقصّ اللسان، إلى عمامةٍ سحريّةٍ يرتديها كلّ من يرغب في لفت الانتباه. فهنا، يحذّر درويش (فاحذر ملامحهم وغمدك) من تحويل هذه القضية إلى لحافٍ وهميٍّ يتغطّى فيه الذي يشعر بأنّه عارٍ من الحق والإنسانية. كما أن درويش يستعمل في نصِّه صورًا تشبيهيّة ويجلب أساطيرَ عنقاوية، ليدعو إلى تجدّد فلسطينيّة الثورة، الخالصة والمجرّدة من أيِّ سلاحٍ عربيٍّ مُرٍّ منعدم الطلقات.

"هذا الصمتُ عالٍ كالذّبابة"

"وحدي أدافع عن جدارٍ ليس لي"

"أيوب مات.. وانصرف الصّحابة"

"آه يا دمنا الفضيحة"

في تلك المرحلة، كانت الأحداث متراكمة على منظمة التحرير الفلسطينية، أبرزها السلام المصري- الإسرائيلي عام 1979م، حيث استطاع، هذا السلام، أن يزيل التهديد الاستراتيجي للجيش المصري من الجبهة الجنوبية لإسرائيل. كما كان في تلك المرحلة اجتياح لبنان وحصار المنظمة في بيروت، الذي هجّر ودمّر وذبح عددًا لا يستهان به من الفلسطينيين، كما أنه أضعف من كينونة وأساسيات منظمة التحرير. كذلك في 16 أيلول من العام 1989م في لبنان عندما حدثت مجزرة (صبرا وشتيلا)، التي قام بها مقاتلو "القوات اللبنانية" بدعمٍ جليٍّ من إسرائيل. كما أن الصمت العربي كان له أثر بالغ على هويّة المنظمّة، بالتالي على هويّة الفلسطيني.

يستخدم درويش المكان في القصيدة بكثرة، ليحيله بعد ذلك إلى إنسانٍ قادرٍ على احتواء الفلسطيني متمثلًا بالمنظمة، ولم يجد في الإنسان غير الأنثى تستطيع ذلك

"لولا هذه الدول اللقيطة، لم تكن بيروت ثكلى"

"عربٌ أطاعوا رومهم، عرب وباعوا روحهم، عربٌ وضاعوا"

"سقط القناع، لا إخوةٌ لكَ يا أخي، لا أصدقاء يا صديقي، لا قلاعُ"

"لا أحد إلّاك"

يدرك الشاعر الأقنعة العربية المغلّفة بالدفاع عن القضية الفلسطينية، كما أنه، في مرحلة التآمر والخنوع أمام معطيات وخيارات العدو "الروم (إسرائيل وأميركا)"، يدعو إلى التمسك بالذات الفلسطينية، وتقويمها؛ لتستطيع بعد ذلك أن تقف وحدها، وسط كلّ هذه الدوّامة من الخذلان والتردّد العربي، وهنا نستذكر بيتاً من الشعر للمتنبي "وسوى الرومِ خلفَ ظهركَ رومٌ   فعلى أيِّ جانبيكَ تميلُ".

يضيف درويش:  

"بيروت المكان: مسدسي الباقي. بيروت الزمان: هوية الآنَ المدرج بالدخان"

"كم عربٌ أتوكِ ليصبحوا غربًا، وكم غربًا أتاكِ ليدخل الإسلام من باب الصلاة على النبي وسنة النفط المقدّس"

"وأنا أسميك الوداع، ولا أودعُ غير نفسي"

"مَن تزوجني ضفائرها لأشنقَ رغبتي"

يستخدم درويش المكان في القصيدة بكثرة، ليحيله بعد ذلك إلى إنسانٍ قادرٍ على احتواء الفلسطيني متمثلًا بالمنظمة، ولم يجد في الإنسان غير الأنثى تستطيع ذلك. في حديثه عن بيروت الأنثى، يؤكد أنها المنفى القريب من الوطن، والمأمن الحالي. ولكنها أصبحتْ تملؤها القذائف، وتحاصرها الطائرات، ويدنيها الجالسون على تخومها من سياسيين، و"قوّات لبنانية". لذلك أصبح الوجود الفلسطيني غير مرحّب به في بيروت، ليس لأنها لم تعد تلك الأنثى الحاضنة، إنما لكثرة الأعداء والطامعين بسقوطها. فهنا، درويش، يرمي إلى أن يبحث الفلسطيني عن أرضٍ أخرى، بأظفارٍ قويّة، تنهشُ لحم الأعداء.

لا يمكن الفصل بين الشاعر والأحداث التي تدور في مكانه وفي ذهنه

"أنا لا أشاء ولا تشائين، اتفقنا كلُّنا في البحر ماءُ"

"حرّيتي فوضاي، إني أعترف، وسأعترف بجميع أخطائي وما اقترف الفؤاد من الحنين"

"كن حافيًا، كالنهر في درب الحصى"

"أنت أوسع من بلاد الناس"

"أنت المسألة"

يحاول درويش، باستخدام الكناية، ردَّ اعتبار لقيمة الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية، بعد السلام الذي وقع بين لبنان وإسرائيل، والذي أساسًا لم يدم وقتها طويلاً. كما يحاول خلق موازنة نفسية بين الفلسطيني وما آلت إليه بيروت، تلك التي صارت ترفض دون إرادتها الوجود الفلسطيني، فيعبّر عن رفض الفلسطيني أيضًا لذلك. كما أن رفض الفلسطيني، ليس لكثرة الأعداء فقط، إنما لأنه حرٌ طليق، يرفض أن يكون في مكانٍ ذي سلطةٍ فوقه "فلا صوت يعلو فوق صوت المقاومة"، بحيث يشكّل رؤيته مستقلًا دون أي تأثير محليٍّ أو غير ذلك.

في نهاية الأمر، يمكن القول؛ إن هذه القصيدة الملحمية، ذات لغة عميقة سلسة قابلة لتأويلاتٍ كثيرة، وتملؤها الصور الشعرية، كما جرى توظيف الأساطير فيها بشكل منطقي. وكتبتْ في مرحلةٍ ما، لتحكي بدورها عن أحداث تلك المرحلة، وما مرّت به القضية الفلسطينية من خذلان عربي متجدد، ولحاقٍ إسرائيلي مدمِّر. تدعو القصيدة لأن يكون الفلسطيني عزيز النفس، وثابتًا مستقلًا لا تحرّكه الرياح إذا مالت، صامدًا في وجه المشروع الصهيوني، كما أنها تؤكد بطولة الفلسطيني الرمز، وبسالته رغم كثرة التحديات الموجودة.

الريماوي
محمد الريماوي
كاتب ومدوّن. خريج جامعة بير زيت. له اهتمامات في اللغة العربية والكتابة الإبداعية والشعر وكتابة الأبحاث والمقالات، ويقدّم محتوى مرئيًا ومسموعًا على منصات التواصل الاجتماعي.