عن فاطمة المرنيسي وشهرزاد المغربيّة

20 اغسطس 2024
+ الخط -

كانتْ الشمسُ تنثرُ أشعتَها على أفقِ فاس، حينما انتهى بي المسير من وجدة الحبيبة إلى زقاق "الطّالعة الصُّغرى" في المدينة القديمة لفاس. وعلى طولِ الطريق المؤدّي من سينما "أبي الجنود" إلى حدودِ ضَرِيح مَوْلَاي إِدْرِيس الأَزْهَر، كنتُ أتحسّس نسمات هواءٍ عليلٍ تُلامس وجهي وتلفحُ صدري. كنت تائهةً بحقيبتي الثقيلة على ظهري بين الأزقة الضيّقة، تَزْكُم أنفي روائح التوابل والقهوة المُعطّرة، وتستوقف نظري حلويات "النُّوكا" الملوّنة والمصفوفة بإتقانٍ على واجهاتِ المحلّات وطاولاتِ الباعة المتجوّلين. تُرافقني في هذه الرحلة الساحرة الكبيرة، فاطمة المرنيسي، ابنة حي "الطّالعة الكبيرة" بين دفتي روايتها "نساء على أجنحة الحلم".

أغبطُ نفسي على التجوّل برفقةِ فاطمة، وهي التي تُمكّنني بجسارتها المعهودة من الولوجِ إلى فضاءاتِ فاس المحظورة، ومُعاينة بنياتها الأكثر عمقًا وحساسيّة. 

تحت نافورة الدار الكبيرة التي ترعرعتْ بداخلها فاطمة، ووسط الحريم، أختلسُ السمعَ لأحاديث نساء فاس في أواخر الأربعينيات عن هَوَاجِسهن، أَحْلَامِهِنّ، رغْبَتِهِنَّ في الانعتاق والتحرّر. أسمع عمّة فاطمة تحدّثها عن الحلم المُجَنَّح وإمكانيّة استنبات أجنحة للطيران والانعتاق، "وكانت عمتي تزعم بأنّ في مقدور الكل التوفّر على أجنحة والمسألة مسألة تركيز فقط. إنّ الأجنحة المعنية ليست ظاهرة كأجنحة الطيور، ولكنها تؤدّي دورها على أحسن ما يرام، وكلّما تعوّدنا على التركيز ونحن صغار، كان الأمر أفضل. وعندما ألححت عليها لكي تشرح أكثر، تضايقت وأخبرتني أنّ بعض الأشياء العجيبة لا تُلقّن: ما عليك إلا أن تكوني يقظة وتلتقطي الحفيف الحريري للحلم المجنح. ولكنها رغم ذلك أوضحت لي بأنّ هناك شرطين ضروريين للتوفّر على أجنحة؛ أولهما أن تحسي بنفسك محاصرة في دائرة، وثانيهما أن تؤمني بأنّك قادرة على فكِّ حصارها".

الحريم في خدمة هامشية نون النسوة

هذه المحادثات السريّة التي كانتْ تدور بينها وبين عمّتها حبيبة وأمّها وجدّتها الياسمين، هي التي أشعلت فتيل الرغبة عند فاطمة لتتبّع وفكِّ خيوط مفهوم شائك وحسّاس (الحريم)، حيث تعرّفه فاطمة على أنّه مصطلح مشتق من كلمة (الحرام أي الممنوع) ، وتصنّفه نموذجاً بنيويّاً ظلّ لصيقًا لقرون بمصادرة جنسانيّة المرأة وحقّها في الاختيار والتعليم والعمل، "كلمة الحريم تعود إلى لفظة الحرام الذي يتعارض مع الحلال. إنّ الحريم هو المكان الذي يضع فيه الرجل أسرته ليدرأ عنها الخطر، سواء تعلّق الأمر بزوجة واحدة أو عدّة زوجات بأطفاله أو قريباته، قد يكون في بيت أو خيمة، لا أهمية لذلك".

وبما أنّ مصطلح "الحريم" كان يؤثّث لجلّ كتاباتِ فاطمة المرنيسي، بادر العديد من النقاد واللغويين إلى تفكيك معناه. ففي كتابه "مائة كلمة في الجنوسة"، يعرّف جاك أندري الحريم كالتالي: "الحريم يبيح لرجل واحد فقط امتياز الدخول إليه، وجميع النساء الموجودات في هذا الحريم ملك له". 

خصّصت المرنيسي حيّزًا مهمًا في روايتها "نساء على أجنحة الحلم"، لتسليط الضوء على الحريم الاقتصادي، أي المرأة العاملة دون أجر أو تقدير

كما توضّح فاطمة أنّ لهذا المصطلح تمثّلات عديدة، واحد من هذه التمثّلات يتجلّى في فضاء الرواية الذي كان يُمَارِس على نساء الدار نوعًا من الضغطِ والاضطهاد، "كان مدخل دارنا حدوداً حقيقية محروسة كتلك التي توجد في عرباوة، وكّنا بحاجة إلى إذن للدخول والخروج، كلُّ تحرّكٍ كان يستلزم تبريراً، وكان عليك احترام المراسيم كاملة للتوجّه نحو المدخل. إذا قدمت من الباحة عليك أن تسير في ممرٍّ طويل لتجد نفسك أمام (أحمد) البواب، جالساً على حشيته وكأنّه يعتلي عرشاً وصينية الشاي أمامه".

وَالمُتَأَمِّلُ في فضاء الرواية سيلاحظ حتمًا، أنّه فضاء بحدود مزدوجة، أوّل هذه الحدود يتمثّل في الهندسة المعمارية له التي تشبه السجون، وثانيهما القوة البشرية المستعملة أيضاً للحرص على هذه الحدود، والتي جسدتها شخصية (أحمد البواب).

الحريم الاقتصادي: مصادرة حق المرأة في تلقي الأجر

بين حاراتِ سوق الرّصيف، أتوقف عند بائعة الخبز وأستحضر حوارًا لفاطمة المرنيسي على قناة الجزيرة، حينما طلب منها مُحَاوِرها (في برنامج الْمَشَّاء)، توضيح مسألة تقدّم المرأة، وكان جوابها  "المرأة قديمًا كانت تعد الخبز في المنزل لكنها ممنوعة من الخروج خارج الدار لبيعه، اليوم تعده بالبيت وتخرج للشارع لعرضه، وهذا في حدِّ ذاته ثورة اقتصادية باهرة!". وفي هذا الصدد، خصّصت المرنيسي حيّزًا مهمًا في روايتها "نساء على أجنحة الحلم"، لتسليط الضوء على الحريم الاقتصادي، أي المرأة العاملة دون أجر أو تقدير، إذ تقول "إنّ النساء مثلًا يعملن كالرجال طيلة النهار، ولكن الرجال يحصلون على الأجر دون النساء. إنّه أحد القوانين اللامرئية، وحين تبذل المرأة مجهودًا كبيرًا دون أن تحصل على أجر تُحاصر في حريم، حتى وإن كانت لا ترى أسواره"، ومن هنا يظهر إيمان فاطمة المرنيسي العميق بقوّة خروج المرأة إلى الفضاء العام من خلال عمل تأخذ أجرًا مقابله كمدخلٍ أساسيٍّ لتمكين المرأة اقتصاديًا. 

محاكمة نساء لصالح تحريرهن

في الرواية، ثمّة مفارقات وتناقضات صارخة، تتجاوز عالم الرجال والنساء لتصل إلى العلاقة بين المرأة والمرأة نفسها، حيث "تنتمي جدتي للا مهاني وأم شامة للا راضية إلى المعسكر المناصر للحريم، أمّا أمّي وشامة وعمّتي حبيبة فينتمين إلى المعسكر المعارض". إذ إنّ شخصيّات كشخصية (للا مهاني) رمز لتمجيد الهيمنة الذكورية، وترسيخ ثقافة العادات والتقاليد التي تقصي المرأة عن إثبات وجودها  "في ذلك الزوال السحري كانت للا مهاني تتابع حديثها عن ضرورة احترام التقاليد. إنّ كلّ من يخالف تراث أجدادنا حسب رأيها لا يمكن أن يكون ملائمًا، وينطبق ذلك على تسريحات الشعر، كما ينطبق على قوانين البناء، فالتجديد ملازم للدمامة والقبح، تأكدن من أنّ أسلافكن قد اكتشفوا أفضل طريقة للتصرّف، تقول ذلك وهي تصوّب بصرها إلى أمي". في المقابل، تُميط فاطمة المرنيسي الحجاب عن شخصيّات نسائية تتطلّع للتحرّر رغم كلّ القيود المفروضة عليها قسرًا كشخصيّة جدّتها الياسمين التي كانت تؤمن بذكاء المرأة وقدرتها على التغيير، أو شخصية طامو التي خالفت أعراف الضيعة بعشقها للخنجر والفرس.

ثمّة مفارقات وتناقضات صارخة، تتجاوز عالم الرجال والنساء لتصل إلى العلاقة بين المرأة والمرأة نفسها

رقصة على درب الانعتاق

بين زقاقِ فاس البالي، تحثّني فاطمة على تشغيل أغنية اسمهان "أنا أهوى .. أنا أهوى". يحلّق بي صوت اسمهان الملائكي عاليًا، فأتخيّل فاس امرأةً ممشوقة القوام، بشوشةَ الثغر، ضحوكةَ الوجه، يراقصُ شعرها الأسود المُنسدل شوارعها. أراها من بعيد تُلوّح لي بيديها الفاتنتين، وتدعوني أنا وفاطمة للرقص معها بجنان السبيل. أتخيّل نفسي حافية القدمين بقفطانٍ حريريٍّ مفتوح وبشعرٍ أسود منساب، أتمايل بخصري على وقع الأنغام كفراشةٍ حرّة طليقة. تجذبني فاطمة نحوها وتهمسُ لي "بإمكان الأحلام أن تغيّر حياتك، كما أنّ بإمكانها أن تغيّر العالم في النهاية. التحرّر يبدأ حين ترقص الصور في ذهنك". أبتسم لهمسها قائلة "الرقصُ يشعرني بالحريّة والسيطرة، وهذا العالم خارجًا يصيبني بالغثيان!"، تربت فاطمة على كتفي وتخبرني بأنّني أذكرها بنساءِ الدار حينما "كن يستجبن لكلمات أسمهان بالتخلّص من أخفافهنّ والرقص حافيات حول النافورة، الواحدة تلو الأخرى، كلّ واحدة ترفع قفطانها بيد وتضم إلى صدرها باليد الأخرى حبيًبا متخيّلًا".

الكلمة كتحرير للخيال والرقص كتحرير للجسد

أسمعك يا فاطمة تتحدّثين كثيرًا عن شهرزاد، من هي شهرزاد؟ تجيبني بابتسامةٍ تطفو على ثغرها: آه، شهرزاد هي تلك التي روّضت الحكايا لتفعل ما تعجز عن فعله القُبل والأحضان، للحكي نشوته التي تفوق نشوة الجسد. بفضل الحكي، كانت تتحرّر نساء الدار من أسوار الحريم إلى فضاءاتٍ أوسع وأرحب بخيالهن الخصب وأحلامهن المجنحة، "كانت عمّتي هذه تتقن الكلام ليلًا بالكلمات، وحدها تجعلنا نبحر على ظهرِ سفينةٍ كبيرةٍ عائمةٍ من عدن إلى المالديف أو تحملنا إلى جزيرة، حيث الطيور تتكلم كالإنسان. كنّا نمتطي صهوة الكلمات فنجتازُ السند والهند تاركين وراءنا دار الإسلام ونعيش مخاطر المغامرة ونلتقي بالنصارى واليهود الذين يعرضون علينا مشاركتهم في أكلهم الغريب، وينظرون إلينا ونحن نصلّي كما ننظر إليهم وهم يصلون. أحيانًا كنّا نسافر بعيدًا جدًا إلى مكانٍ ليس فيه إله، وحتى الوثنيون الذين يعبدون الشمس والنار ينالون تعاطفنا حين تصفهم لنا عمّتي حبيبة".

بفضل الحكي، كانت تتحرّر نساء الدار من أسوار الحريم إلى فضاءاتٍ أوسع وأرحب بخيالهن الخصب وأحلامهن المجنّحة

حينما كانت تُوصد الأبواب على الحريم، كان الحكي، المحاكاة، المسرح، الغناء، أو الرقص هي الملاذات التي تهرب إليها نساء الدار لإطلاقِ العنان لرغباتهن الخفيّة المحكوم عليها بالإقبار والقمع.

كانت فاطمة المرنيسي تؤمن بقوة الكلمة والحلم في مشروعها التحريري، بل كانت تعتبره أكثر من ذلك، سلاحًا "شرعيًا" لتمكين المرأة من إعادة إيجاد جسدها ووجدانها ضدّ الإقصاء الذي كان يُمارسه عليها المجتمع البطرياركي. 

وصية الوداع

الساعة على يدي تُشير إلى الثالثة مساءً، أتذكر موعد انطلاق القطار الذي سيحين بعد نصف ساعة تقريبًا. أسلّم على فاطمة وأترك قطعةً من قلبي هنا بين أزقة فاس. أتوجّه مسرعةً نحو محطّة القطار وصوت فاطمة من خلفي يردّد: "الكرامة هو أن يكون لك حلم، حلم قوي يمنحك الرؤية، عالم لك فيه مكان، مهما كانت فيه مشاركتك صغيرة، ستغيّر شيئًا ما".