عن العيد في الغربة
كنّا صغاراً، ننتظر صبيحة العيد على أحرّ من الجمر. الساعة الثامنة صباحاً، ورائحة "لحمة السوداء" تفوح في أنحاء المنزل. نتناوش أنا وأخواتي الاثنين من سيقعد على زاوية الطاولة، حيث صحون الأكل يسهل تناولها. طبعاً، تبدأ المناوشات بين أمي وأبي؛ "منروح عند أهلي قبل أهلك"، فيما صوت فيروز يعلو في خلفية المشهد.
لم نعد نلبس ملابس جديدة، لقد كبرنا على ذلك. لكن جدتي تعتقد أننا لم نكبر على "العيدية"، وبإصرار حازم تعطي لكلّ منّا هدية العيد: فلوس. نأكل المعمول وننتظر الغداء واكتمال باقي أفراد العائلة. نجتمع حول مائدة الغداء، 15 شخصاً. وبين الأحاديث السياسية والاجتماعية، نتوه في الحوار، فيما تسعى جدتي لتخفيف حدّة المناوشات.
بعدها يأتي أجمل وقت لي خلال النهار، نحتسي القهوة، تلك القهوة العربية المرّة. كنت أحتسي ثلاثة فناجين وأنتظر تعليق أبي "هلاء ما بتنامي بليل". وخلال وقت القهوة نستقبل ونودّع الزوار، كنت أكره تلك العادة، لأنّ زيارات العيد التي لا تنتهي، ولا ينتهي حديث أولئك الذين يريدون حشر أنوفهم بأخبار العائلة.
نحو الساعة السابعة مساء، كان ينتهي دوام العيد، فنعود للمنزل، بينما يقع مشكل: "ماذا سوف نطلب للأكل". ثمّ ننهي يومنا باجتماع طارئ حول ساعة الاستيقاظ غداً للذهاب إلى الضيعة.
الوحدة موحشة ولكن أين باب الهروب؟ الأبواب موصدة وأنت تحاول البحث عن نافذة، نافذة تحلم منها بمنزل ليس حزينا ولا بعيدا
اليوم، في الساعة الثامنة صباحاً، رائحة القهوة تفوح من مكتبي، أشربها وحيدة فيما رائحة "لحمة السوداء" تفوح في ذاكرتي الحزينة. أبعث رسائل معايدة على "چروب العائلة" حيث أمي وأبي وأخواتي وأولادهم يجلسون على مائدة الصباح ومقعدي فارغ!
أترك لهم رسائل صوتية، أعايدهم، متمنية لهم أياما لطيفة. هل الأيام فعلاً ستكون لطيفة معنا؟ أجهل الإجابة على ذلك السؤال. أتصل بجدتي، وأقول لها كم اشتقت إليها، وأن تنتظر رجوعي قريباً. أقول لها "قريباً" وأنا لا أعلم متى.
نجتمع على طاولة الغداء في العمل، يتمحور الحديث حول حادثة أودت بمقتل أحد ما وأنا كالصنم، أستمع ولا أعلّق. أدخل في صمت عميق، أبتسم من حين لحين، لأن جسدي لا يستطيع الهرب من هنا، لكن أفكاري تستطيع ذلك. أهرب بمخيلتي نحو منزلنا في لبنان، أراني بين أهلي، أبتسم وصوتي يعلو في المنزل، لأنني أقرّر أن أغنّي مع فيروز "هيدي إمي بتعتل همّي منك إنتَ ملاّ إنتَ".
الساعة السابعة مساء، ها أنا أدخل المنزل الحزين، حزين لأنه هو أيضاً وحيد. أفتح التلفاز كالعادة لسماع الضجيج كخلفية ليس، وأجلس وحيدة. أعتقد أنّ الوحدة فن نتعلم كيفية التعايش معها مع الوقت. الوحدة موحشة ولكن أين باب الهروب؟ الأبواب موصدة وأنت تحاول البحث عن نافذة، نافذة تحلم منها بمنزل ليس حزينا ولا بعيدا.
إذا إنه يوم مثل أيّ يوم، يوم عادي، لم يعد يوم العيد.
في الغربة، إن كنت وحيداً، طعم الأيام والأعياد يختلف. العيد هو العائلة، هو القهوة مع جدتي، هو المشاكل السياسية على طاولة الغداء، هو ابتسامة أمي وتعليقات أخواتي. العيد في الغربة طعمه مرّ.