عن أفريقيا التي لا نعرفها

31 مايو 2021
+ الخط -

ذهبت أوروبا إلى قبة الأمم لتهدي الناس إلى دين الحقوق، ووضعت أفريقيا تحديدا في حديقة المنزل، ترعى فيه الخنازير، وتحرث فيها الأرض، وتستخرج منها الذهب واليورانيوم والنفط، وكل خيرات القارة السمراء..

ذهبت تلك السفن التي كانت تنقل العبيد من الموانئ الأفريقية إلى المستعمرات لخدمة الرجل الأبيض، وبقيت توتال وشركات التنقيب وتصدير المنتجات هي من تستعبد الناس. تتحكم الشركات الفرنسية في جميع الخدمات الرئيسية في معظم دول القارة السمراء، المياه والكهرباء، الهاتف والنقل، الموانئ والبنوك، حركة الاستيراد والتصدير، البناء والزراعة، النظام النقدي والمصرفي والسياسي والاجتماعي والتعليمي والثقافي. 

كنت لأقول في عنوان هذا المقال "عن أوروبا التي لا نعرفها"، لكنني استحسنت العنوان (عن أفريقيا التي لا نعرفها) كوننا على كل الأوجه لا نعرفها، أو أُريد لنا أن لا نعرفها، إذ هي القريبة البعيدة، وإذ هي شقيقة بيئتنا ومحيطنا، وفي يوما ما جمعنا به عمق ثقافي وسياسي واجتماعي واحد، وبلغة السياسة المعاصرة الحوض الجيوسياسي الواحد، الذي ثبت في التاريخ أن توحده يعني تغير معادلات الصراع في العالم، ولذا بفعل فاعل نحن حقا لا نعرفها حقا.

كنت في أحد البلدان التي تخضع للهيمنة التامة لإحدى الدول الأوروبية، عندما وطأت قدمي تراب ذلك البلد، خيل إلي أنني أمام مشهد من فيلم (12 Years a Slave)

انطلت على اللاوعي العربي تحديدا وهو المعني في هذا المقام، وعلى الشعوب المجاورة للقارة السمراء، الحيلة الاستعمارية التي تقول: "أفريقيا لا يوجد فيها سوى العبيد"، استبطنت الشعوب العربية هذه العبارة وأسكنتها في اللاوعي واللاشعور، حتى اللغة في دلالتها اللغوية وألفاظها تشير إلى ذلك، إذ لا يزال مسمى العبيد في المجتمعات العربية يُشير إلى الأسود (الأفريقي).  وإن كان ذلك في حقيقة الأمر قد بدأ في أوقات متقدمة، عند نشأة الإمبراطوريات القديمة، حينما سخرت جزءا كبيرا منهم في خدمتها، إلا أنه ظل عالقا متجددا في اللاوعي العربي تحديدا، حتى بعد مجيء الإسلام على الرغم من الجوقة الحضارية والإنسانية الواحدة التي انصهرت فيها شعوب المنطقة مع مجيء الإسلام.

مورس الفعل التغريبي للشعوب الأفريقية بشكل مكثف إبان الاستعمار الأوروبي للشرق الأوسط وأفريقيا، بدأ بفصل أفريقيا عن آسيا ثقافيا واجتماعيا وشعوريا -وهذا الأخير كان ذا أهمية بالغة- من خلال تلك الصورة المشوهة التي ظل ينقلها عن الشعوب الأفريقية، حينما غُربت الذات الأفريقية بجعلها منبوذة في محيطها، ثم من خلال الإذلال والقهر النفسي، والاستنزاف الثقافي، وتجريف ومحو  اللغة والموروث التاريخي الأفريقي، الذي يربطها بشعوب المنطقة من حولها. قرابة 100 المليون شخص أفريقي يتحدثون الفرنسية في القارة السمراء، إذ تعد الفرنسية لغة رسمية في 27 بلدا أفريقيا، ومثل ذلك اللغة البرتغالية في دول منطقة الرجاء الصالح.

كانت حالة الاستنزاف تختلف من بلد إلى آخر، إلا أن كلامي هنا تحديدا عن المناطق الغربية والوسطى من القارة الأفريقية، الأكثر تضررا من السياسات الأوربية في أفريقيا، تصاب بالذهول وأنت تقف أمام حالة النكران للذات والتغريب الهوياتي، الأبدان أفريقية وكل ما سوى ذلك لا ينتمي إلى هذه الأرض، الأسماء، اللغة، الدين، الثقافة، حتى على مستوى المنتجات الغذائية، لا يؤكل إلا ما كتب عليه فرنسي، أسماء الأفراد والأماكن والعملات والبنوك، والمدن والشوارع، ومرافق التعليم والمناسبات والفن الخ..

لا تزال أوروبا متمسكة بتلك الصورة الذهنية القديمة، الإقطاعية وقلاع النبلاء الشاهقة التي تنهب حقول المزارعين، باتت أفريقيا بمثابة حديقة خلفية ومستودع الاقتصاد الأوروبي بكل ما تعنيه الكلمة، ولولا ذلك لهوت الاقتصاديات الأوروبية ومن بينها فرنسا، وبحسب تعبير الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك: "دون أفريقيا، فرنسا ستنزلق إلى مرتبة دول العالم الثالث".

ترزح  المجتمعات الأفريقية تحت أقصى درجات التغريب والاستنزاف الثقافي والاقتصادي والإنساني، حتى ليخيل لك أن شعوب تلك المجتمعات وتلك الأرض، لم تخلق إلا لأجل البيت الأوروبي وخدمته.

أنشأت فرنسا المنظمة الدولية للناطقين بالفرنسية "الفرنكوفونية" لضمان هيمنتها على المستعمرات التي كانت تحتلها، تحتفظ فرنسا بالاحتياطات الوطنية لـ 14 دولة أفريقية منذ عام 1961، أُنشئت الجمعية المالية الأفريقية سيفا (CFA) لتداول عملة الفرنك بين دول أفريقيا الوسطى والغربية، يتم طباعته وتحديد قوته الشرائية من قبل باريس، كما تلتزم دول الجمعية بإيداع 50% من حجم ودائعها النقدية الأجنبية في الخزانة الفرنسية.

مؤخرا، كنت في أحد البلدان التي تخضع للهيمنة التامة لإحدى الدول الأوروبية، عندما وطأت قدمي تراب ذلك البلد، خيل إلي أنني أمام مشهد من فيلم (12 Years a Slave)، رب العمل رجل أبيض، العاملون كومة من أجساد السود الذين نسوا ماهيتهم، والذين أصبحت أسماؤهم جيمس وهاري وراشيل وبيرتي، الفقر والاستعباد يجريان في المجتمع مجرى الدم، الخنوع وقابلية الاستعباد وإعادة إنتاجه، يتم دسها في مرافق التعاليم.