عندما يسود الملل
عبد الحفيظ العمري
الملل، هو ذلك الداء المستفحل الذي يصيب الجميع دون أن يستثني أحداً، إذ ليس هناك فرد منّا إلّا ومرّت عليه فترة، بل فترات زمنية، شعر فيها بمللٍ مطبِق عليه، حتى أصبح لا يدري ماذا يفعل؟ وكيف ولماذا؟
كلُّ شيءٍ متشابه، كلُّ الألوان صارت لوناً واحداً، والوجوه تشابهت والمواقف نفسها. لفّت الرتابة كل التصرفات منذ الاستيقاظ من النوم وحتى الذهاب إلى النومِ مرّة أخرى. بل إنّ النوم نفسه أصبح شيئاً مملاً.
لقد ضاقت دوائر الحياة من حول الإنسان، فلم يعد هناك أيّ شيء يشدّ الانتباه ويلفت النظر. الأخبار السياسية التي تذيعها النشرات كلّ يوم هي نفسها تقريباً؛ إذ لا تخرج عن دائرة العنف والعنف المضاد والكوارث والبؤس المطبق على البشرية طيلة الزمان. وكذلك أخبار الفن والرياضة والأدب، أصابتها الرتابة. وحتى أخبار الطقس تشابهت مع ما يُذاع كلّ يوم!
صار شعور الملل جارفاً، فأفقد المشاعر الحياتية الأخرى أيّ طعمٍ ولونٍ ونكهةٍ، حتى أضحى شعار الحياة اليوم في كلّ صباح: مرحباً بك في دنيا الملل.
كلُّ شيءٍ متشابه، كلُّ الألوان صارت لوناً واحداً، والوجوه تشابهت والمواقف نفسها
ألّف الكاتب المصري الراحل أنيس منصور كتاباً رائعاً عن الملل بعنوان "وداعاً للملل". صحيح أنّه شخّص الملل بكلّ تفاصيله، وحلّل ووضح، لكنّه لم يقضِ على الملل الذي يُحيط بنا. يقول أنيس منصور: "الذي عنده ملل يشعر بأنه ليس على صلة بالواقع، إنه منعزل". وكأنّ العزلة هي مصدر هذا الملل المطبِق؟
وفي موضعٍ آخر يقول: "الذي يمل أو الذي يتململ هو إنسان لا يرغب حتى في الرغبة". أي إنسان فقد الرغبة في أيّ شيء، وبالتالي يكون أقل تذوّقاً لمتع الدنيا، ونجد هذا في الذين يفرّطون في كلّ ملذات الدنيا حتى الثمالة، ثم يداهمهم شعور الملل لشعورهم بالغربة في ملذاتهم عن الحياة الطبيعية.
بيد أنّ الدكتور مصطفى محمود له رأي آخر؛ إذ يقول: "الملل عقوبة الطبيعة لمنْ لا يعمل". فهل يصيب الملل العاطلين فقط؟ أبداً، فهناك من الذي يعملون يصيبهم داء الملل والرتابة. ومن وجهة نظري، يصيبنا الملل من الرتابة التي نمارس بها أعمالنا اليومية. لكن كيف؟
صحيح أنّنا نؤدّي أعمالاً، لكن دون روح ولا متعة في العمل نفسه، مما يجعل الملل شعوراً مصاحباً لنا؛ لأنّ ذلك العمل يصبح مجرّد إسقاط لواجب، وسبب القيام به هو الحاجة للمال أو نحوه وليس الرغبة فيه، وأثناء تنفيذنا له تحكمنا الألفة والعادة في التنفيذ، فلا إبداع، ولا ابتكار، ولا شيء من ذلك، ما يحوّلنا إلى مجرّد آلات بشرية لتنفيذ ذات العمل مع مرور الوقت.
لقد ضاقت دوائر الحياة من حول الإنسان، فلم يعد هناك أيّ شيء يشدّ الانتباه ويلفت النظر
وانظروا معي إلى حالة الموظف الحكومي في بلداننا العربية، إنّه يمارس نفس الروتين الوظيفي طوال عقود الخدمة التي فرضتها عليه قوانين البيروقراطية المستفحلة في العالم العربي الكسير. ودعونا نتتبع هذه الرتابة.
يبدأ العمل بحافظة الدوام (ذلك القيد الذي لا بدّ منه لتسجيل تواجد الموظف في مكان عمله)، فّاذا وقّع عليها، فهو موجود وإن غادر مكان العمل، وإذا لم يوقّع فهو غير موجود وإن كان متواجداً بشحمه ولحمه. المهم ما تقوله الأوراق الرسمية! ثم يتابع العمل (إن وجد) بنفس الرتابة اليومية، وهكذا.
وتنعكس هذه الرتابة على سلوكه في عاداته الاجتماعية، التي صارت ضيّقة الجغرافيا، محصورة بين مكان العمل والبيت ومكان تواجد شلّة الأصدقاء. فنصير في نهاية المطاف كأنّنا أجهزة هضم تعمل بحكم قوانين البيولوجيا، التي أودعت فيها عندما تتلقف أيّ طعام!
إنّ التغيير في عاداتنا هو الذي يكسر هذا الملل المطبق، ويضخ دماء الحياة والحيوية في هذا الهلام المتكلّس من البشر الذين ظلّوا يمارسون نفس الأعمال لعقود طويلة، وسيظلون كذلك، ربّما.
إنّ التغيير في عاداتنا هو الذي يكسر الملل المحيط بنا، ويضخ دماء الحياة والحيوية في عروقنا
يجب أن نغيّر من مواعيد أعمالنا. فمن وضعنا، كي نغلق أيّ سبيل يؤدي بنا إلى تلك الرتابة، حتى نبدع ونصنع جديداً، ولا نقع في فريسة التقليد، بل نكون نواة تجديد. فإلى كلّ مَمْلول، أدعوك إلى تغيير عاداتك اليومية والأسبوعية والشهرية، حتى تستعيد بشريتك، ولا تكن مجرّد "سن" في ترس يدور داخل ماكينة ضخمة اسمها المجتمع.
غيّر طريق ذهابك إلى عملك.
غيّر المكان الذي تذهب إليه عادة، ليكن في حارة أخرى، عند أصدقاء جدد أو أصدقاء قدامى لم تلتقِ بهم منذ زمن.
تعرّف على كاتب جديد لم تقرأ له من قبل.
غيّر... غيّر... حتى تتغير أنت، فلا يداهمك طاعون الملل.