عندما خُذلت الأمم المتحدة… وخذلتنا!

عندما خُذلت الأمم المتحدة… وخذلتنا!

20 فبراير 2024
+ الخط -

سُنحت لي الفرصة، خلال دراستي للماجستير، أن أتسجّل في صفٍّ عن أدوار الأمم المتحدة مع فيليب لازاريني الذي أصبح لاحقًا مفوّض عام وكالة الأونروا. انبهرت بشخصيته، فهو ذو خبرة كبيرة ومثقف ومتمسك جدًّا بالحلول السلمية وبأهمية دور الأمم المتحدة. أعطى لازاريني الصف بشكلٍ استثنائي وتطوعي، وفق ما علمنا من أساتذتنا في الجامعة. كانت شخصيته الهادئة والذكية والمسالمة تبعث بالأمل في مستقبل أفضل وحديثه يشير إلى أنّه بالفعل هناك أدوات كافية لتتمكّن، حتى في ظلّ الحروب، من الحدّ من سفك الدماء. 

كنت متفائلة حين أصبح لازاريني المفوّض العام للأونروا، تأملت أن تتحسن ظروف الفلسطينيين في عهده. لكن اليوم أتساءل ما جدوى ذلك، فماكينة القتل الإسرائيلية لا تبالي بالحقوق الإنسانية ولا بالمساعي الدبلوماسية ولا بالقانون الدولي. الأونروا نفسها خسرت ما يزيد عن 155 موظفًا منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة. جرائم حرب الواحدة تلو الأخرى، وأحدًا لا يتدخّل أو يحاسب.

يواجه اليوم لازاريني مطالبات لاستقالته من الجانب الإسرائيلي، "المسألة الحقيقية ليست القيادة، بل هي تفكيك الوكالة. سواء كان أي شخص على رأس المنظمة، سيبقى هدف تفكيك وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين قائمًا.. لذلك، لا أعتقد أن ترك القارب في حالة من الفوضى هو الجواب المناسب اليوم"، بحسب ما قال لازاريني في مقابلة إعلامية، مؤكّدًا "لدينا دعم الغالبية العظمى من الدول الأعضاء، ويأتي النداء بالاستقالة فقط من دولة واحدة".

أكثر من أربعة أشهر مرّت على بداية الحرب الإسرائيلية على غزّة. أسئلة كثيرة تراودنا ونحن نشاهد صور القتل والدمار تغزو الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي. نقف عاجزين، ننشر القصص في محاولة لنقل الحقيقة بينما تستمر الكثير من وسائل الإعلام الغربية في حملات التضليل!  

هلّلنا بعجز وبيأس لرفع جنوب أفريقيا دعوى ضدّ إسرائيل في محكمة العدل الدولية علمًا أنّنا في سرّنا نعلم أنّ الدعوى لن تحقق نتائج جوهرية وإن حقّقت أي نتيجة فستكون متأخرة، وسيكون بحسب المثل اللبناني الشعبي "يلي ضرب ضرب ويلي هرب هرب"، فإسرائيل تحظى بدعم دولي كبير. ومع ذلك، كانت هذه الخطوة ضرورية للتذكير بضرورة الاحتكام بالقانون الدولي ولتفعيل دور المنظّمات الدولية خصوصًا بعد فشلها، حتى اليوم، في حماية المدنيين الذين يعيشون في مناطق النزاعات.

تأسست الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 بهدف الحفاظ على السلام والأمن الدوليين، وتعزيز حقوق الإنسان، وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتجنّب تكرار مآسي الحرب أو على الأقلّ وضع أطر للحرب، لحماية المدنيين. لكن اليوم ومع جرائم الحرب التي ترتكب بشكل يومي في غزّة وفي السودان وغيرها من البلدان، لا بدّ من مراجعة دورها.

يتخبّط أمين عام الأمم المتحدة الحالي أنتونيو غوتيريس ويناشد ويطالب ويستنكر، ولكن أحدًا لا يسمع!

"هناك الكثير من الغضب والكراهية والضجيج في عالمنا اليوم.

كل يوم وفي كل منعطف، يبدو - إنها حرب.

في جميع أنحاء العالم وعبر مجموعة من القضايا، السلام هو الجزء المفقود.

ومع ذلك، يرغب الناس في السلام والأمان.

يريدون السلام والكرامة.

بصراحة، يريدون السلام والهدوء.

سعي السلام هو الجهد الأكثر أساسية بين جميع الجهود البشرية.

السلام أكثر من رؤية نبيلة.

السلام هو نداء للتحرك. إنه نداء للعمل.

وأنا لن أتخلى أبدًا عن النضال من أجل السلام"، وفق ما نشر غوتيريس على صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي.

تعود بي الذاكرة هنا إلى مجزرة رواندا، التي راح ضحيتها أكثر من 800 ألف شخص عام 1994. بعد 27 عامًا وتحديدًا عام 2021، زار الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون رواندا وأعلن مسؤولية فرنسا عن السماح بوقوع هذه الإبادة الجماعية، وفقًا لنتائج التحقيق الفرنسي، الذي كشف أنّ فرنسا "لم تكن متواطئة"، لكنها "فضلت الصمت على النظر في الحقيقة".

بعد 27 عامًا وتحديدًا عام 2021، زار الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون رواندا وأعلن مسؤولية فرنسا عن السماح بوقوع هذه الإبادة الجماعية

احتاجت فرنسا 27 عامًا لتعترف بمسؤوليتها. استحضرت رواندا الآن لأنني لدى الاعتراف الفرنسي تفاءلت بسذاجة بأنّ هذه الصفحة طويت والإبادة أصبحت من الماضي وأنّ النظام العالمي قد أنتج أدوات كافية لتجنّب المجازر الإنسانية والإبادة وسفك الدماء إلى حدٍّ كبير، لكن يبدو أن ذلك غير صحيح.

اليوم ورغم أن الإبادة في غزة تحدث على الفضائيات وتنقل مباشرة لكن ما زال الغرب يشكك فيها. هل سيعترف العالم الغربي يومًا أنه أخطأ في غض الطرف عمّا يحدث في غزة؟ هل ستقف دولٌ مثل ألمانيا وفرنسا أمام العالم وتقول: لقد حصلت إبادة في غزة ونحن مسؤولون لأننا سمحنا بذلك؟ لكن وإن اعترفت بذلك سيكون الوقت قد تأخر بالفعل والآلاف ماتوا قتلًا وبردًا وجوعًا.

درسنا كثيرًا عن أدوار الأمم المتحدة المتعدّدة وعن القانون الدولي واتفاقيات جينيف الأربعة وضرورة حماية المدنيين ومفهوم الـResponsibility to Protect (مسؤولية الحماية)، إنّما أراها كلها تسقط تحت أقدام أطفال غزة كل يوم وفي كل لحظة في الأشهر الأربعة الماضية.

كشفت الحروب الحاجة الملحّة للمنظّمات الدولية لتنظيم علاقات الدول فيما بينها ولتجنّب اللجوء إلى العنف. ولكن بالمقابل، تكشف الحروب أيضًا ضعف هذه المنظمات. الأونروا هي أبرز مثال على ذلك. فرغم أهمية الوكالة ليس فقط من الجانب المادي والإنساني، ولكن أيضًا من الجانب السياسي، إذ إنّ وجودها مرتبط بقضية اللاجئين وحق العودة، إلا أنّ الحرب سلّطت الضوء على هشاشتها. شكّلت التبرعات المستدامة من حكومات دولية ومن الاتحاد الأوروبي نحو 95 في المئة من تمويل الأونروا لعام 2022. 44% من تعهدات الأونروا هي من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية، كما تتضمّن لائحة أكبر المانحين: الولايات المتحدة الأميركية، ألمانيا والسويد، وتشكّل تبرعات هذه الدول مع دول الاتحاد الأوروبي أكثر من 60% من إجمالي تمويل الوكالة. تشير أرقام الأونروا عام 2022 أنّ الجهات الأكثر تمويلاً للوكالة هي التالية:

ـ الولايات المتحدة الأميركية

ـ ألمانيا

ـ الاتحاد الأوروبي

ـ السويد

ـ النرويج

ـ اليابان

ـ فرنسا

ـ السعودية

وغيرها.

توقفت عدة دول عن تمويل وكالة الأونروا بعد مزاعم بسوء الإدارة ومخاوف بشأن الحيادية، ومن أبرزها الولايات المتحدة الأميركية، كندا، أستراليا، بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا هولندا وغيرها.

مشكلة التمويل لا تقتصر على وكالة الأونروا. تواجه الأمم المتحدة اليوم عوائق عدّة، أبرزها أنها تعتمد على تمويل والتزام الدول الأعضاء بقراراتها وتنفيذ القانون الدولي، والتجربة تفيد أنّ الدول عادةً ما تعطي الأولوية لمصالحها الخاصة. أمّا العائق الأكبر، فهو أنّ مجلس الأمن في الأمم المتحدة، أي عنصرها الأهم، مؤلف من خمسة أعضاء دائمين (الولايات المتحدة الأميركية، المملكة المتحدة، فرنسا، روسيا، الصين) لكل منهم حق الفيتو. دائمًا ما يحول ذلك دون البتّ بأي قرارات مصيرية نظرًا للانقسام القائم بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية من جهة، وبينها وبين روسيا والصين من جهة أخرى.

بناءً على ذلك، أعتقد أنّه من الضروري إعادة النظر في دور وأدوات منظمة الأمم المتحدة، والتفكير في إيجاد أدوات جديدة تمكن الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية من فرض القوانين المتعلقة بالحرب. فالقوانين موجودة، والاحتكام للقانون الدولي هو السبيل الوحيد لوقف الحروب، وحماية المدنيين، وضمان المساءلة.

ذكرت بدايةً الدعوى المقدمة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، التي بعثت بالأمل في قلوبنا وسط العجز، وأختم بالتأكيد على أنه في العالم الذي نطمح إليه، يجب على مثل هذه المحاكم والمنظمات الدولية أن تمتلك السلطة والقوة والأدوات اللازمة لتطبيق القانون الدولي. فقط عندما نطالب بتطبيق هذا القانون وبالمحاسبة العادلة، سنتمكن من الحد من هدر الأرواح وتحقيق "السلام المفقود"، وفقًا لما قاله غوتيريس.

وحتى ذلك الوقت، سنبقى نردّد كل يوم وفي كل مكان حول العالم:

Cease Fire, Cease Fire Now!
وقف إطلاق النار الآن!

هلا نهاد نصر الدين
هلا نهاد نصر الدين
هلا نهاد نصرالدين
صحافية لبنانية ومسؤولة وحدة التحقيقات الاستقصائية في موقع "درج"، منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2020. تعمل على تحقيقات حول الجرائم المالية والفساد. شاركت نصرالدين في عدّة مشاريع استقصائية عابرة للحدود، من بينها "باسبورات الكاريبي"، "وثائق إريكسون"، و"وثائق باندورا"، ومشروع "بيغاسوس"، وغيرها.
هلا نهاد نصرالدين