على ضفاف "الإمام"... حديث عن بعض المتسلقين

04 ابريل 2023
+ الخط -

أثار مسلسل "الإمام" الذي يتناول سيرة الإمام الشافعي رفضاً واستنكاراً كبيرين، لم يشهدهما أي مسلسل تاريخي في الآونة الأخيرة، وهو استهجان محق بحق المسلسل وصناعه (شاهدت منه مقاطع متفرقة في وسائل التواصل) لما يتضمنه من ركاكةٍ وأخطاء، إن من حيث النص أو اللغة، وصولاً إلى الهفوات الكثيرة التي يترصدها البعض في مواقع التصوير وغير ذلك، وما أبيات الشاعر السوري حذيفة العرجي، التي أوردها صنّاع العمل على لسان "الإمام" ببعيدةٍ عنا، وليس مدار حديثي عن المسلسل ونقده، فقد كتب الكثير من الأفاضل عنه، وأشاروا إلى أهمية الإحاطة بحياة الشخصية وتراثها ولغتها وغير ذلك من تفاصيل، فكيف بشخصية محورية فذة كالإمام الشافعي رضي الله عنه.

ومن نقطة الكتابة الدرامية أو الإشراف البحثي، كما هي الحالة في المسلسل، يمكن الإضاءة على واحدةٍ من المشاكل التي أترصد تفاصيلها في كثيرٍ من المجالات، من بينها الكتابة التاريخية والبحثية والبرامج التاريخية وغيرها، وفي هذا السياق أودّ تسجيل عددٍ من الأفكار، أرجو أن تكون مدار نظر لدى القارئ الكريم، ومن بينها ما يلي:

أولاً: استسهال الكتابة عامة، والتاريخية منها على وجه الخصوص، ولا أعني هنا الكتابة الشخصية على غرار التدوين وغيره، بل أقصد الكتابة المتخصّصة لبرامج أو مسلسلات وغير ذلك. كما أنني لا أتهم أحداً بعينه، إذ أعرف فاضلاً يحمل دكتوراه في الفلسفة، ويكتب نصوصاً لبرنامجٍ تاريخيّ، في غاية الدقة والرساليّة. ولكنني أقصد هنا استسهال الكتابة في قضايا التاريخ، أو الحديث عنها، لكون السمة العامة للتاريخ بأنه "قصة"، وأنّ المصادر مبثوثة ولا تحتاج عناية ومتابعة كثيرة. ولكنها بكلّ تأكيد تعليلات لا تستقيم، فالكتابة الدرامية التاريخيّة على سبيل المثال، لا تحتاج إلى اطلاع في الحقبة التاريخيّة فقط، بل تتطلّب دُربة على لغة ذلك العصر ومصطلحاته، من الكلمات العادية التي يتحدث بها الناس في شؤونهم، وصولاً إلى لغة الخطاب مع الملوك والأمراء وطرق الدخول إليهم، وما يتصل بذلك من تقسيماتٍ للمجتمع وطبقاته، وتأثير هذه الطبقات في الأحداث التي يرصدها الحدث، والشخصيات المحورية التي مرّت في الزمن المستهدف وأثرت به، وصولاً إلى الأزياء وأماكن التصوير وطريقة إظهارها حقيقة، أو عبر المؤثرات البصرية.

وهنا يحسن الاستشهاد بالمسلسلات التاريخيّة التي كتبها الدكتور وليد سيف، رائد الكتابة في الدراما التاريخية، إذ كان يستطيع أن يتقمّص لغة العصر الذي يتناوله، فتجري اللغة على ألسنة الأبطال عالية فصيحة، ولكنها كذلك ضمن سياقات يفهمها العربي المعاصر، ويمكن العودة إلى أيّ حلقةٍ من حلقات "ثلاثية الأندلس" التي أخرجها المخرج الراحل المرحوم، حاتم علي، لمعرفة ما أقصد. إضافةً إلى ما امتلكه الدكتور من مراس للنصوص التاريخيّة، واختيار ما يكون أقرب إلى الحقيقة، وفي الوقت نفسه يقدّم الشخصيات، كما هي، من دون تمجيدٍ أو تقزيم، وقد صدق من وصفه بأن لديه قلم أديب وعين مؤرخ، وهي شروط صعبة جداً لمن يريد أن يخوض غمار كتابة الدراما التاريخيّة، وقد فشلت الكثير من المسلسلات لما فيها من ركاكة وأخطاء.

الكتابة الدرامية التاريخيّة لا تحتاج إلى اطلاع في الحقبة التاريخيّة فقط، بل تتطلّب دُربة على لغة ذلك العصر ومصطلحاته

ربما سيقول البعض، هناك من يكتب النص للدراما (السيناريو)، وهنالك من سيراجع ما كُتب من أصحاب التخصّص. وهنا، يمكن الحديث عن قضية أخرى، بأنّ التخصّص الاسمي المجرّد لا يكفي في مثل هذه الإنتاجات، فلا يعني أن يكون الشخص حاملاً لشهادة جامعية عليا في التاريخ أن يكون متخصّصاً في شخصية الإمام الشافعي مثلاً، أو حقبة المرابطين أو غيرها، وكم من متخصّص لم يتعامل مع نص واحد يعود إلى الحقبة التي يريد مراجعة ما كُتب عنها، وهنا ينحصر دوره في مراجعات عامة وبعض المصادر من هنا وهناك، اللهم إن لم يكن قد وضع اسمه ذراً للرماد في العيون.
ثانياً: في سياق متصل بموضوع التاريخ والاهتمام به، نلاحظ ظهور العديد من المنصّات التي تتحدث عن التاريخ، وهذا من الخير لا شك في ذلك، فهو مؤشر للاهتمام بهذا المجال، ولكنه اهتمام إما يستبطن حالة من سرد القصص فقط، من دون أي خوض في القضايا التاريخية أو الحضارية الشائكة، في سياق استعراض معلوماتي يظلّ في كثيرٍ من الأحيان بقالب واحد تقليدي، يتمثل بالحديث المباشر أمام الكاميرا. ومن معيار تفضيلي شخصي، أميل إلى الاستماع لمتخصّص عميق في التاريخ (وهم كثر) عن مشاهدة هذه الحلقات الصغيرة على هذه المنصات، وأقول ذلك بأنّ الحاجة اليوم إلى إعادة تظهير التاريخ بقوالب أكثر جمالية، تمزج السرد التقليدي مع تقنيات الفيديو والمؤثرات البصرية والتمثيل، وغير ذلك، وهو ما يمكن أن تفعله بعض هذه المنصات لما يظهر من إمكانيات لديها، أما الأفراد من المتخصّصين أو المهتمين، فجهدهم، ولو كان بالشكل التقليديّ، فمشكور مأجور.

وفي سياق متصل، وعلى غرار دخول أيّ كان إلى الكتابة هناك من يجد ميدان التاريخ مجالاً للتميّز والظهور، خاصة لمن يملك مقومات في الإلقاء أو الكتابة، ولكنها كما أسلفنا ليست كافية بمفردها، فالمتخصّص في العلاقات الدولية أو العلوم السياسية لا يجب أن يكتب في تاريخ وسط آسيا، أو جزر "هاواي" من دون دراية وخبرة واطلاع، بمجرّد قدرته على الكتابة البحثية عامةً، وهو ما ينطبق على الكثير من المجالات الأخرى إن قمنا بعكس الأمثلة. 

أظهر لنا مسلسل "الإمام" وما يشبهه، بأنّ حالة التردّي لا تقف عند مجال بعينه


ثالثاً: السيولة الكبيرة التي تشهدها سنواتنا هذه، إذ يمكن لأيٍّ كان أن يدّعي ما يريد، في سياق المساحة الكبيرة التي تعطيها وسائل التواصل الاجتماعي لهؤلاء، إذ ترى أناساً يعرّفون أنفسهم بأنهم باحثون، ولكنهم لا يكتبون كلمة في حياتهم في القضية التي يبحثون فيها. أو من يدّعي أنه متخصّص في التاريخ وهمه تعرية شخصية، أو تمجيد أخرى، والبحث عن المؤامرات الكبرى التي لم يتنبّه لها غيره. وهي وإن كانت حالة شديدة البشاعة في العلوم الإنسانية عامة، إلا أنها أشدّ قبحاً واستنكاراً في العلوم التي تتعلّق بالتربية أو علم النفس والاستشارات الأسرية والزوجية، فكم تحفل المنصات بأناسٍ يقدّمون استشارات نفسيّة، وحصيلتهم دوراتٍ في "الكوتشينغ"، أو في التنمية البشرية، وآخرون "يفتون" في التربية أو العلاقات الزوجية وغيرها، وهم متسلقون منتفعون، ولكنهم يجيدون تسويق أنفسهم بكلّ جدارة.

والإشكالية هنا، بحسب بعض من حدثته عن هذه الأفكار، في المتلقي الذي يتابع هؤلاء، ويعطيهم حجماً أكبر من حجمهم الحقيقي، عبر المتابعة المجرّدة على وسائل التواصل، ومن ثم التفاعل مع ما يقدمونه من دون الالتفات إلى غثاثة الأطروحات التي قدموها، وإلى أنّ استشاراتهم ليست إلا عبارات عامة أو دعوات لا تأصيل علمياً لها، عدا عن الأخطاء الجسيمة التي تُرتكب بحق ضحاياهم، ففي حالات تكون آثار هذه الاستشارات كارثية.
أخيراً، أظهر لنا هذا المسلسل، وما يشبهه، أنّ حالة التردّي لا تقف عند مجال بعينه، وأنّ المتسلقين أصبحوا هم غالبية من يتصدّر هذه الفرص والأماكن، في مقابل الحرمان الكبير الذي تعانيه شرائح كبيرة من المتخصّصين والمبدعين، في وجود المتسلقين ممن ذكرناهم آنفاً، وضياع المبدع المتقن في سيل المرجف الركيك.

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".