عقيدة ميخا غودمان: تقليص الصراع مع الفلسطينيين!
حذرت الفصائل الفلسطينية في اجتماعها المنعقد أخيرا في غزة إسرائيل من ارتكاب "حماقات" جديدة، معلنة رفع حالة الاستنفار العام استعدادا لمواجهة محتملة، في الوقت الذي تتواصل فيه في الضفة المواجهات مع قوات الاحتلال، فيما يواصل المقدسيون رباطهم في الأقصى وتحديهم لانتهاكات المستوطنين وحكومتهم.
في هذا الوقت يتجنب كثير من المراقبين السؤال الأهم: هل تندلع انتفاضة ثالثة؟ من الواضح أن إسرائيل هي أبرز طرف يسعى عبر كل تكتيكاته لمنع هذه الانتفاضة، لأسباب عديدة سنأتي على شرحها، أهمها أنها باتت استراتيجيا متبنية لمقاربة إدارة الصراع وفرض نظام الفصل العنصري المزين بتسهيلات اقتصادية. أما الطرف الثاني للأسف الذي يشارك إسرائيل مخاوفها من انتفاضة، بل ويسعى لإجهاضها استباقيا، فهو السلطة الفلسطينية مدفوعة بمخاوف على مصالحها وشبكة التنفيعات المرتبطة بها، وهذا يفسر حملة الاعتقالات غير المسبوقة وغير المفهومة التي تشنها بالتزامن مع حالة الاشتباك الفلسطيني العام مع إسرائيل، وتصدي الفلسطينيين لعربدة تل أبيب في القدس والضفة.
ثمة قراءة تفسر ذلك السلوك الإسرائيلي وتلك المقاربة التي تتجنب فيها تل أبيب التصعيد، ننطلق فيها من الاعتماد على قراءة خطة إدارة الصراع التي صاغها الأكاديمي الإسرائيلي ميخا غودمان، والتي يتبناها رئيس الحكومة الحالي المستوطن نفتالي بينت بالكامل، وتقوم تلك المقاربة على إدارة الصراع والسلام الاقتصادي، وتقليل حدة الاشتباك مع الفلسطينيين والتخفيف منه، وهي نسخة عن طرح غريمه بنيامين نتنياهو في كتابه "مكان تحت الشمس"، وتعني تلك الرؤية تجاوز حل الدولتين، وكل عملية السلام، وعدم الاعتراف أصلا بوجود مشكل سياسي ولا قضية فلسطينية، وإنما مجموعة كتل بشرية توجد في وبالقرب من إسرائيل يتم احتواؤها عبر تقديم تسهيلات اقتصادية، والتخفيف من شعورها بأنها تحت احتلال، وتلك ذاتها هي مضمون "صفقة القرن" التي صاغتها إسرائيل وتبناها وترجمها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
أفضل طريقة لمواجهة هذا المشروع الإسرائيلي الجديد بثوبه الاقتصادي، والمدفوع بغطاء عربي وتواطؤ من السلطة، يكون عبر التعامل مع إسرائيل كنظام فصل عنصري
وقد استعار نفتالي بينت مصطلح "تقليص" الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من أستاذ التاريخ ميخا غودمان في مقال نشره الأخير بتاريخ 15 يوليو/ تموز 2021.
ويقول غودمان في مقاله إن مفهوم تقليص الصراع يعني السعي وراء كل سياسة من شأنها تعزيز الحكم الذاتي الفلسطيني بشكل كبير دون تهديد الأمن الإسرائيلي، والهدف تحويل الجزر الفلسطينية المتمتعة بالحكم الذاتي في الضفة الغربية لكيان متصل نوعيا، لكنه تحت السيطرة الإسرائيلية، وتعزيز الازدهار الاقتصادي، وتحويل الشبكة المجزأة والهشة لجزر الضفة الغربية إلى نظام سياسي، هدف كل ذلك بالمحصلة النهائية تقليص الصراع الذي من شأنه منح الفلسطينيين كتلة حرجة من الحكم الذاتي، لا تريد إسرائيل الانسحاب الكامل منها، ولا تريد في الوقت نفسه حكمها بشكل مباشر.
تقديري أن "عقيدة غودمان" هي التي تحكم سياسة حكومة بينت حاليا، وتحدد خياراتها، وتفسرها. تلك العقيدة تقول أيضاً إنه لا يوجد في إسرائيل اليوم انقسام إيديولوجي، بل يوجد انقسام سياسي، لكنه داخل تيار واحد هو تيار اليمين، كما لا يوجد انقسام في ما يتعلق بالموقف من الفلسطينيين والعملية السياسية والتي قسمت في السابق إسرائيل، فاليوم كل الساسة وكل إسرائيل مجمعة على عدم منح الفلسطينيين دولة ولا العودة أبدا لأي مسار سياسي معهم.
مواجهة تلك العقيدة، والمدفوعة اليوم بغطاء رسمي فلسطيني تتماهى معه السلطة، وغطاء عربي تحاول فيه بعض الدول التي طبعت مع إسرائيل تسهيل مهمتها في القفز عن الحقوق الفلسطينية عبر دمجها قسريا والترحيب بها كيانا طبيعيا، لا يمكن إلا أن تكون بانتفاضة شعبية واسعة تعيد قلب الطاولة على الجميع، وتعيد تعريف الصراع بأنه صراع شعب تحت الاحتلال يريد أن يتحرر، وليس مجموعة من البشر يبحثون عن تحسين ظروف معيشتهم.
المؤشرات والتجارب السابقة كلها تقول إن سياسة القفز على الشق السياسي، وعدم حل القضية الفلسطينية بحل أصل الصراع، لن تفضي لاستقرار، ولا يمكن أن تنجح مقاربة تقليص الصراع، ربما تخدر الفعل الفلسطيني مؤقتا، لكنها لن تنجح في كبح تطلعات الشعب الفلسطيني نحو التحرر وإقامة دولته المستقلة.
إن أفضل طريقة لمواجهة هذا المشروع الإسرائيلي الجديد بثوبه الاقتصادي، والمدفوع بغطاء عربي وتواطؤ من السلطة، يكون عبر التعامل مع إسرائيل كنظام فصل عنصري، ومواجهته بمختلف أنماط المقاومة الشعبية، وتغيير وظيفة السلطة، وإنهاء الاحتلال المجاني، وعدم التورط مرة أخرى في تمرير مخططاته بقوالب جديدة، يحتاج كل ذلك إجماعا فلسطينيا عابرا للفصائل، ومستلهما لصمود القدس، وتجربة سيفها، ونضالات أهالي حي الشيخ جراح، وتمسك فلسطينيي الداخل بوجودهم، مجرد الصمود في الأرض من شأنه إفشال تلك المشاريع.