عرّابة الأموات العابرة
لم تكن ترتدي ثوبها الغجريَّ أو ضفائرها الطَّويلة كما اعتادت أن تفعل، بل تركت شعرها مسدولًا مثل الذِّكريات المرميَّة في قبور الأحلام، عند الكوفيَّات المراقة بالدِّماء وأشلاء الأطفال. لم تكن تحمل بلُّورتها الكريستاليَّة كي تتنبَّأ بالمستقبل، فالمستقبل كالماضي، أصبح صورة متوقَّعة، متكرِّرة، لا تدهش أحدًا. كما أنَّها لم تكن تطارد الأحزان الخامدة في أعين النَّاس، بل اكتفت بلعن فتورهم العاري أمام أعلامهم المنكَّسة.
إلَّا أنَّها، كانت تتمنَّى أن يحمل طريق الكنائس الفوضويَّة قدحًا من أمل، لسجَّادتها المفرودة عبثًا أمام الزُّوَّار. لكنَّ أحدًا لم يمرّ. لكنَّ أحدًا لم يلتفت لها أو يتوقَّف عندها، بل اكتفى الجميع برمي فتات النُّقود إلى جانبها، ظنًّا منهم أنَّ هذا ما يصبو إليه حزنها، أو تنادي به هيئتها الرَّثَّة.
كم سخرت منهم على جهلهم، وكم قرأت في تعابير كلٍّ منهم تفاصيل حياته من أصغر تصدُّع في الرُّوح إلى أجزاء الأرواح المحطَّمة كليًّا، بالإضافة إلى ذلك الحكم المزاجيّ عند كلِّ من يقصدها بأنَّ المنجِّمين كاذبون وإن صدقوا.
أحيانًا كانت تتمنَّى لو يصيبها ضررٌ يعميها عن كلِّ ما لا تستطيع تجاهله. كانت تشتهي الأحوال الهادئة والبال النَّقيَّ، بل السَّاذج أيضًا. وحاولت. حاولت بأقصى طاقتها أن ترمي غبار الرُّؤيا في الأنهار الجارية، علَّها تمضي فتصنع بذلك غدًا مختلفًا عمَّا عهدته، أي مختلفًا عن الحقيقة.
هل كانت الضَّمائر الميِّتة أكثر ما يفوح من النَّاس لذا لم تحتمل الاقتراب منهم؟
هل كانت الضَّمائر الميِّتة أكثر ما يفوح من النَّاس لذا لم تحتمل الاقتراب منهم؟ هل كانت المنازل الباردة والعائلات المشرذمة ما جعلها تختار سجَّادات التَّنجيم عوضًا عنها؟ هل كانت أبديَّة الأديان الكاذبة ما دفعها إلى نسج العلاقات العابرة، من دون رغبة في الاستقرار؟
لا ريب أنَّ أقدامها قد وطئت أراضيَ وعرة وملبَّدة بالمجهول، بل أنَّ إقدامها على المجهول صار لها تجربة اليقين الذي يسير السَّير نفسه كلَّ مرَّة. السَّير ذلك الممل، الغبيّ والفاني. مع أنَّها لم تترك "سجَّادتها" بتاتًا، بل مارست عليها كلَّ طقوس الحرِّيَّة، والتَّمرُّد، حتَّى مزَّقت كلَّ ما فيها. دمَّرتها، رغم أنَّ كلَّ ما أرادته هو الحفاظ عليها إلى الأبد، ولكن ما "أبدُها" سوى محطَّة مؤقَّتة في قطار اللاجدوى واللاكتراث؟
تذكَّرت امرأة كانت قد صادفتها يومًا أثناء ترحالها، ما زالت قادرة على رسمها بوضوح كأنَّها انعكاسها المنسيُّ من زمن آخر. امرأة تقرأ في رواية مُخجِلَةِ العنوان والفحوى في ساحة المتحف ذاك. امرأة كانت بحدِّ ذاتها روايتها هي آنذاك. تصفَّحتها مطوَّلًا، فلحقت بها في أفكارها المبعثرة وقناعاتها المتزعزعة، وأدركت أنَّها من الَّذين لا يدوم في قلبهم شعور، ولا في ذكراهم صورة. حاولت أن تجمع إيماءاتها الشَّاردة، لكنَّها اكتشفت أنَّ البشر في حياتها مجرَّد أحجيات، منثورة نثرًا اعتباطيًّا في نفسها، من دون أولويَّة أو هرميَّة تذكر.
لم تَتُه يومًا في مصير الغرباء، بقدر ما تاهت فيها. كأنَّها محور الطَّقس المتبدِّل وآلهة الموسم المتقلِّب بلا إنذار. كأنَّها ما يحرِّك عطرها، روحها، أوراق مصيرها ومصائر العابرين ببساطها، لكنَّها لم تقدر أن تحيد عن لوحتها لحظة واحدة، ولا أن تحذِّرها من النِّهايات الوشيكة، لبساطتها؛ كضحيَّة مُحتَمَلة لتلك الميدوسا "المستشيطة" زهدًا في مشرَّدي الكاتدرائيَّة.
كثيرًا ما كانت تقع في شراك الغارقين في اللامعروف، فتحمل قصصهم على كتفها لتقلَّهم إلى برِّ الأمان الَّذي أحرقها. وكثيرًا ما كانت تصادف المتجهِّمين في وجه الحبِّ، فتخدعهم بتنجيمها حتَّى يميل بعضهم إلى بعضٍ، في سجن توقُّعاتها المؤبَّد. لكنَّ تلك المجهولة، قد عرَّت بِصَمتِها كلَّ ما يمثِّله تمثيلها ميتافيزيقيًّا، ولم ترتح إلّا بعد أن تركت بَصمَتَها في عينيها الجاحظتين، سرمديًّا. لدرجة أنَّ مرور درَّاجة أمامها كان كفيلًا بإرباك كلِّ توقُّعاتها، ففشلت في تكهُّن اسم الرَّجل الَّذي تحدَّاها في قراءة طالعه، واستسلمت لتهكُّم العجوز الَّتي راقبتهما خلف قميصها المشبوك في أعلى الشُّرفة.
كم شاءت أن تدافع عن نفسها، أو أن تفصح عن مرايا الموت الَّتي تجلَّت أمامها في ذلك اليوم بالذَّات... يوم أسقط عنها لقب العرَّافة، مع جسد القارئة المهرولة الَّتي لم تنقذها، ودم العجوز المعلَّق على حبل الغسيل، ورأس الرَّجل الذي لم يمتلك يومًا هويَّةً... يوم قيل عن مدخل الكنيسة حين غادرت: "هنا كذبت المنجِّمة، عندما صدقت..."