عائداً من موت وشيك

04 مارس 2023
+ الخط -

ها أنت توصد الباب خلفك بإحكام، تغمض عينيك كما لو أنك تنصب كميناً للنوم عساه يزورك هذه الليلة، فهي ليلة لا تشبه غيرها من الليالي في شيء. أنت اليوم بطل قومي، ولو أنّ بطولتك الخجولة، قد حدثت في مخيلتك فحسب، بعيدًا عن أنظار عالم مشغول بنكباته ومآسيه.

 لقد عدت إلى الحياة بكامل إرادتك بعد أن كنت تقف على حافة الهاوية. أتراك فزعت، إذ رأيت نهاية حياتك من منظور الآخرين؟ أخِفتَ شماتة النفوس الحاقدة أو سخرية القدر من جبنك الإنساني الغريزي؟ لولا أنني أعرفك لظننت للحظة أنك عائد رغما عن إرادتك. "مجبر أخوك لا بطل"، ولكنني، ولصفوة فؤادي ونقاء سريرتي، سأتظاهر بأنها فعلًا بطولة من صنيعك، سأختار التغاضي عن بركان الانفعالات الذي يقطن في داخلك الآن، منتظرًا الوقت المناسب للانفجار، حتى وأنت تعلن نهاية المعركة بابتسامة مخادعة.

لقد شهدتُ هزائمك التي أخفيتها عن الجميع، دموعك التي كَتَمَتْ سرها، وسادتك التي احتضنتها بعطف أخوي، وأحزانك التي سلبت الكثير من بعضك. ورغم ذلك، فلست أنظر إليك بعين الشفقة المُذِلَّة، بل أعجب لتشبثك بسراب حياة، ببطولة، ولو كانت وهمًا جميلًا. لو كان لي جسد وإرادة وحياة لما صمدت كما فعلت أنت يا صديقي.

 ولكن لم التعجّب الآن؟ أنت إنسان عاشق للتحديات التعجيزية، تركب قارب النجاة متعمّدًا الغرق، وتضرم النار في صحراء قاحلة مبيتًا نية الموت بسبق الإصرار والترّصد. لا بد أنّ الموت بدا لك في لحظة المواجهة على ضعفه الخفي، وأدركت فجأة، وأنت تحدّق في عيني خصمك، أنّ كامل القوة في امتناعك عن الاستلام أمام نزوة عابرة تصيب خمسة من كلّ مائة ألف إنسان على وجه البسيطة. لا بد أن ارتأيت، وفي آخر لحظة أنّ قصتك أكثر أهمية بكثير من أن تكون لها نهاية مبتذلة. ليس أنت من يسمح لشريطه السينمائي أن يدنس بكليشيهات تافهة.

أنت اليوم بطل قومي، ولو أنّ بطولتك الخجولة، قد حدثت في مخيلتك فحسب، بعيدًا عن أنظار عالم مشغول بنكباته ومآسيه

 ولأنني أعرفك جيدًا، فإنني أعرف خطوتك المقبلة بعد أن تستعيد كامل وعيك؛ ستعود لها لترمّم قلبها المكسور، وسيفصح ثغرك عن ابتسامة مطمئنة لتظن هي أنها استعادتك أخيرًا، أنها تلقفتك من جوف الموت بعد أن نجوت من الغرق في بحر الفناء بمعجزة. ولكنها ليست بتلك السذاجة، فهي بالفعل تدرك أنّ حضورك ليس سوى جسديًا، وأنّ روحك قد رحلت عنها للأبد. ستحاول أن تعود إلى سيزيفية حياة تشبه الموت البطيء  ستتقبل واقعك المرير خوفًا من أن تجني على نفسك مصيبة أكبر من مصيبة العيش في عالم عبثي. ثم إنك ستواصل محاربة الدهشة فيك عن طريق نكت وحدك تدرك سواد معانيها المبهمة، ستضحك حتى يظهر ضرسك الثالث، ولكن مشاعرك الدفينة لن تظهر لأحد مهما تمعن في النظر مقلتيك. سيتمكن البعض من أن يلمح الفزع القاطن في عينيك، ولو لبضع ثوان فحسب، ولكن فرحك المبتذل والمبالغ فيه، سيجعل شكهم يبدو سخيفًا للغاية.

في أكثر من مناسبة، سينتابك الحنين للمدّ والجزر الذي كان أكبر مخاوفك منذ زمن قليل. ستتمنى أن تحظى بفترة استراحة من الحياة العادية، أن يتسنى لك أن تنتشي بشيء من الحزن المَرَضِي بعد انقطاع صعب. ولكن لا تقلق، ستزورك الأحزان من حين لآخر، لتتأكد أنك لا تزال على وفاء لذاكرة الألم، وأنّ طعم الموت لا يزال عالقًا بين شفتيك. وإن أردت مني نصيحة أخوية، فلا تتعجل موعدك مع المآسي. عش ما تبقى لك من حياة الأموات هذه، كمن وهبه الرب فرصة أخيرة، وتذكر أنّ استعجالك للقدر لن يغيّر شيئاً من واقعك. وأهم من كلّ هذا يا صديقي، تذكر أنّ بإمكانك خداع الجميع بأقنعتك المختلفة التي تغيّرها مائة مرة في اليوم ما عداي، أنا نفسك التي تعرفك حق المعرفة!

دلالات
آية العزوق
أية العنزوق
كاتبة وطالبة جامعية باحثة في مجال علم النفس، مهتمة بالقضايا السياسية والاجتماعية. لها عدّة مقالات وقصص قصيرة في الصحف والمجلات. تعرّف عن نفسها بقول للكاتبة فرجينيا وولف "رغبتي للحُب لم تخبو وتذبل، فما تزال بداخلي أحاسيس التوق والهيام ولا أستطيع أن أُظهرها للعلن، أوليست أرق وأعذب المشاعر تِلك التي نجعلها محبوسة بداخِلنا؟!".