"ظلم زايد ظلام".. أي بلد هذا؟
عبد الحفيظ العمري
هي مقطوعة شعرية، شعبية، بالعامية اليمنية للشاعر الشاب، عبدالناصر السقّاف، يعبّر من خلالها عن أحوال بلدنا، اليمن، في العصر الحالي، فيقول:
"ظلم زايد ظلام
داخلِك يعْتَبِي
كان يِشَاْ لكْ نبي
يعجنك من جديد
وشْتكوني بلاد
كم لنا سَاهنين
للعدالة نَفَسْ
داخلك تستقيم
ما هَلْ إلّا ضَرَسْ
نِزْتَوي داخله
من زمان الزمن".
هكذا عبّر الشاعر الشاب السقّاف عن هذي البلاد أنها "ظلم زايد ظلام". ما هذا؟ معادلة رياضية أم كيميائية؟ أظنّها تصلح معادلة رياضية تفاضلية، لكنها ستصبح من الدرجة ظلمات، لأنّها لا تعبّر عن مجرّد ظلمات معنوية، بل ظلمات من كلّ لون؛ ظلمات مادية مُمثلة في رحيلِ الكهرباء، ذلك الاختراع الذي غادر هذه الأرض، ولم تسعفنا الألواح الشمسية المناضلة بأضواء مماثلة، ولا الكهرباء التجارية التي تمتصّ أموالنا!
وظُلمات الظلم نفسه، ذلك الظلم المركّب في هذه البلاد ذي التركيبة العجيبة؛ حيث الكلّ فيها ظالم ومظلوم في آنٍ واحد. ظالمٌ لمنْ هو أدنى منه رتبة، ومظلومٌ ممنْ هو أعلى منه، في هيراركية مرعبة، فيها كلٌّ يظلم على قدر طاقته ومقدرته، وكأنّنا في الغابة، بل لماذا "كأننا"؟ بل نحن كذلك.
معادلة رياضية تفاضلية، لكنها ستصبح من الدرجة ظلمات، لأنّها لا تعبّر عن مجرّد ظلمات معنوية، بل ظلمات من كلّ لون وشكل
فهذه "المحمية" الجغرافية التي نعيش فيها هي الغابة الأرضية بكلّ تنوعها الفرائسي، إذ تقوم الديناصورات العملاقة بواجباتها الكاملة للمحافظة على مصالحها بأيّة وسيلة كانت، في ميكافيلية بلا حدود، وبلا أيّ وازع من دين أو تعليم؛ فالدين لم يفلح في تهذيبنا، لأنّنا هذّبناه وحوّلناه إلى طقوسٍ فارغة من محتواها، نسقطها بحكم العادة والألفة، وانتهى الأمر.
أما التعليم، فسلامٌ على التعليم الذي لم يمنحنا إلا الشهادات الفارغة والألقاب الرنانة، فأصبح جهلنا جهلاً مركباً يحمل شهادة. وأين منه هذا الظلم؟
يجيب الشاعر: "داخلك يعْتَبِي". والفعل "يعْتَبِي" هو المقابل للفعل الفصيح (يُعبّأ)، لكن بالعامية اليمنية، حيث أُضيفت التاء بدل إحدى الباءات في الباء المشدّدة، وجاءت الياء في الآخر مناسبة لكسر الباء قبلها، فصار يعْتَبِي.
ثم يتابع الشاعر:
كان يِشَاْ لكْ نبي
يعجنك من جديد.
فعل الكينونة في بداية الشطر هو للتمنّي، وليس الماضي كما نظن، كأنّه يقول: ما كان ينفعك إلا نبي. ولكن، لماذا نبي فحسب؟
لأنّ الأمر صعب لا يقدر عليه إلا نبي، وهكذا كلّ أمر صعب، وهذا يذكّرنا بمقولة الإمام الشافعي عن اللغة العربية: "هذه اللغة لا يُحيط بها إلا نبي، وأهلها هم جنُّ الإنس".
لم يفلح الدين في تهذيبنا، لأنّنا هذّبناه وحوّلناه إلى طقوسٍ فارغة من محتواها، نسقطها بحكم العادة والألفة، وانتهى الأمر
بيدَ أنّ النبي الذي يشير إليه الشاعر، لا وجود له، لأنّه لا نبي بعد سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، فلا تنتظروا أحداً، ولن نتحايل لغوياً على نصِّ حديث نبيّنا الكريم: "لا نبي من بعدي"، كما فعل الشاعر المتنبي الذي قال إنّه النبي. لا، لن نفعل ذلك. ولو فرضنا، جدلاً، وجود مثل هذا النبي، فلن يعجن البلاد من جديد كما أراد الشاعر، لأنّ الأنبياء لا يعجنون، بل يبنون نفوساً تبني أوطاناً وحضارات رائعة. ولعلّ الشاعر أراد بالعجين المجاز لمعنى إعادة البناء، لكن كلّ هذا لماذا؟
يردّ الشاعر: وشتكوني بلاد. والشين في العامية اليمنية تقابل سين التسويف في الفصحى، أي يقول الشاعر: وستكونين بلاد.. وهناك أحرف أخرى في العامية اليمنية تعمل عمل سين التسويف، كالعين والحاء؛ فنقول: ع يذهب، أي سيذهب، ومثلها، ح يذهب. وهنا حذف الشاعر صفة البلاد التي ستكون، ولعله يقصد ستكونين بلاداً رائعة. وهذا هو الأمر الصعب الذي لا يقدر عليه إلا نبي.
ثم يتابع الشاعر:
كم لنا سَاهنين
للعدالة نَفَسْ
مفردة ساهنين هي جمع ساهن، وهو بالعامية اليمنية الأمل بالشيء والراغب فيه، فنقول فلان ساهن بكذا يعني راغب في كذا، أو متأمّل بكذا، وجاء في أمثالنا الشعبية: "ما مصلي إلّا وساهن مغفرة".
وتعجبني بعض الكلمات التي وردت في القصيدة، وقد غادرت قاموس هذه الأرض، مثل العدالة، وكلمات لم يوردها في القصيدة، لكنّها تأتي مع القانون، وقد غادرت هذه الأرض أيضاً، أمثال: القانون والدستور.. وإنّني أظنّ أنّ القانون أصبح تلك الآلة الوترية التي يُعزف عليها، كما قال الشاعر الكبير أحمد مطر:
منْ يملك القانون في أوطاننا، هو الذي يملك حقَّ عزفه!
وها هم في كلّ بلدة يعزفون!
في حين أن الدستور، أظنّه صار المرادف للتنحنح عند دخول البيوت قائلين: "دستور يا اللي هنا"! وبالرغم من هذا كلّه، فقد جاءت النتيجة مخيّبة للتوقع، إذ يقول الشاعر: "ما هَلْ إلا ضَرَسْ".
ما هَلْ: أي لا يوجد أو ما تبقى لنا إلا (الضَّرَس)، وهي كلمة بالعامية اليمنية والفصحى معاً تعني الألم الذي يصيب الأسنان بعد تناول فاكهة حمضية، وهو اليوم لم يعد يصيب الأسنان فقط، بل أصاب الجسم كلّه. وها نحن "نزتوي داخله"، أي نثوي داخله. وهذا الفعل (أزتوي) هو المقابل للفعل الفصيح "أنزوي، ومع الجمع المتكلم يصبح ننزوي، لكن بالعامية اليمنية حصل تبديل لبعض الحروف، إذ تمّ تقديم الزاي الثالث بدل النون الثانية، وإضافة التاء، وجاءت الياء في الآخر مناسبة لكسر الواو قبلها، فصار نزتوي!
وفي الختام؛ جاءت كلمة "داخل" ثلاث مرّات في النص؛ مرّتين عن البلاد التي داخلها ظلم زايد ظلام، وعن العدالة المؤمّل أن تستقيم داخلها، وهنا ملمح الطباق واضح، والمرّة الثالثة داخل الضَّرَس الذي لم نجد غيره لننزوي داخله من "زمان الزمن" كما جاء في قصيدة الشاعر السقّاف.