طوفان الأقصى وبوصلة حماس
تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة مع انطلاق قطار التطبيع العربي مع الكيان الإسرائيلي، وباتت معاناة الشعب الفلسطيني والحصار الذي يعيشه قطاع غزّة والاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى جزءًا من الروتين السياسي والإعلامي الباهت، وتحوّل الكيان إلى حاجة ملّحة لبعض الدول الداعية للسلام في المنطقة، حتى أتى صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ليقلب الأمور رأساً على عقب، ويفاجئ العالمين العربي والدولي، ويسجّل يوماً تاريخياً.
السادسة والنصف من صباح السبت السابع من أكتوبر، تاريخ لن تنساه الذاكرة، بل إنّه بات مخّلداً في نفوس وعقول العالم أجمع، عندما أطلقت كتائب عز الدين القسّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، عملية عسكرية واسعة ضد إسرائيل، حملت اسم "طوفان الأقصى"، ردّا على الاعتداءات المستمرة التي تشنّها قوات الاحتلال على الفلسطينيين، لتضع القضية الفلسطينية في صدارة الأحداث العالمية، وفي قلب الاهتمام الدولي، حقوقيًا وإعلاميًا وسياسيًا، وباتت تعتبر من أكثر العمليات تأثيرًا في الاتجاهات والمستويات كافّة.
هذه المعركة غير المسبوقة في التاريخ، ومنذ لحظة إطلاقها، فرضت حزمة من النتائج والمعادلات الجديدة على مستوى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من جهة، والعربي والدولي من جهة أخرى، لناحية الصدمة والترويع التي عاشها الكيان الإسرائيلي، وهدم منظومة الأمن الإسرائيلية، والفشل الاستخباري الذريع الذي مُني به الكيان الإسرائيلي، وقهر الجيش الذي "لا يُقهر"، خاصة في لحظاتها الأولى، ثمّ تتالت بعدها النتائج والتوازنات والمعادلات.
تُعدّ عملية "طوفان الأقصى" نقلة نوعية في شكلها ونتائجها وآثارها ليس على الأراضي الفلسطينية فقط، وإنّما على الإقليم بكامله، وعلى مستقبل الفلسطينيين، ومستقبل حركة حماس السياسي
أكّدت عملية "طوفان الأقصى" قدرة المقاومة الفلسطينية وقوّتها وشراستها، وقدرتها على الصمود عسكرياً في وجه الجيش الإسرائيلي، بالرغم من عدم تكافؤ القوّة بين الطرفين نظراً للدعم العسكري واللوجستي اللامحدود من أميركا والدول الغربية لدولة الاحتلال، وأثبتت كتائب القسّام، بالرغم من الحصار المفروض عليها في قطاع غزّة، قدرتها على المواجهة وأداءها الجريء، وقدراتها التنظيمية، وخبراتها العسكرية، التي استطاعت شل القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية وإفقادها توازنها، كما كشفت العملية كذبة أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وكبّدته خسائر فاحشة في البشائر والعتاد، بالرغم من الدعم العسكري الأميركي للكيان الإسرائيلي، حيث قامت الإدارة الأميركية بإرسال حاملة الطائرات الأميركية "جيرالد فورد"، ثم حاملة الطائرات الهجومية "يو إس إس داويت أيزنهاور"، وذلك كرادع ضد أيّ عمليات ضد إسرائيل، ومع ذلك، لم يتمكن الجيش الإسرائيلي من تحقيق أيّ تقدّم أو انتصار في عدوانه على غزّة.
كما جدّدت العملية الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني أمام الإجرام الإسرائيلي، الذي استهدف هذه المرّة المستشفيات والمدارس ودور العبادة والمناطق التي كان يسميها "آمنة"، كما أظهرت العملية تمسّك الشعب الفلسطيني بحقوقه وتشبثه بأرضه، ووقوفه إلى جانب المقاومة بالرغم من الدمار الهائل الذي سبّبته آلة الإجرام الإسرائيلية في قطاع غزّة، وآلاف الشهداء والجرحى، انطلاقاً من إيمانه بأنّ "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلاّ بالقوّة"، وأنّه مستعدُّ لتقديم أرواحه، وكلّ ما يملك فداءً لأرضه ووطنه، وقناعته بأنّ ما فعلته كتائب القسّام ليست له أهداف سياسية كما يحلو للبعض الترويج، وإنّما خطوة أولى على طريق التحرير، وبالفعل، يمكننا القول إنّ هذه المعركة خلخلت كيان دولة الاحتلال، ودقّت المسامير الأولى في جسم الاحتلال للوصول إلى انهياره بشكل كامل، على قاعدة "طريق التحرير يبدأ بمسمار".
أما على الصعيد الخارجي، فقد أثبتت عملية "طوفان الأقصى" وما قامت به كتائب القسّام أنّ حركة حماس حركة فلسطينية وطنية بامتياز، تملك قرارها بنفسها، وليست ذراعاً عسكرية من أذرع الجمهورية الإسلامية الإيرانية في المنطقة، وأنّها اتخذت قرار توقيت تنفيذ ومسار العملية والمعركة بنفسها، دون التنسيق مع الأطراف الأخرى، وهذا ما أعلنت عنه الجمهورية الإيرانية، وجدّد تأكيده الأمين العام لحزب الله السيد، حسن نصر الله، بأنّ العملية فلسطينية وقرارها فلسطيني، والمحور لم يكن على علم بها وبتفاصيلها.
أثبتت عملية طوفان الأقصى أنّ حركة حماس حركة فلسطينية وطنية بامتياز، تملك قرارها بنفسها، وليست ذراعاً عسكرية من أذرع الجمهورية الإسلامية الإيرانية في المنطقة
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه العملية جرّدت عنوان "وحدة الساحات" من مفهمومه الذي لطالما حاول المحور إقناع الشعوب العربية به وبأهميته، وأسقط شمّاعة القضية الفلسطينية من أولويات الدول والجيوش التي لطالما نادت وتحجّجت بها لتحقيق مصالحها، باعتبار أنّ توقيت السابع من أكتوبر كان الأنسب والأمثل لتوحّد الساحات والشعوب العربية والإسلامية مع المقاومة الفلسطينية لبدء معركة "التحرير"، إلاّ أنّها لم تفعل، وقد يحلو للبعض هنا القول إنّ "هذه الدول والشعوب خذلت الشعب الفلسطيني والقضية ومعهما حماس".
وهذه العملية (طوفان الأقصى) من حيث توقيتها وشكلها ومسارها تُضاف إلى رصيد الحركة (حركة حماس) المعارض لبعض السياسات الإيرانية في المنطقة، وأبرزها قرارها الخروج من سوريا عام 2012 ودعم ثورة الشعب السوري، وبالتالي فإنّ هدف حماس استعادة أراضيها وحماية الشعب الفلسطيني من جرائم العدو الإسرائيلي، وليس تنفيذ الأجندة الإيرانية في المنطقة.
إذاً، تُعدّ عملية "طوفان الأقصى" نقلة نوعية في شكلها ونتائجها وآثارها ليس على الأراضي الفلسطينية فقط، وإنّما على الإقليم بكامله، وعلى مستقبل الفلسطينيين، ومستقبل حركة حماس السياسي، وما قبل السابع من أكتوبر لن يكون كما بعده على كلّ المستويات، كما أنّها ستلعب دوراً كبيراً في رسم معادلات وتوازنات سياسية واستراتيجية جديدة في المنطقة، ستتضح معالمها في الأيام أو الأشهر المقبلة.