طوفان الأقصى: القتال من المسافة صفر

11 ديسمبر 2023
+ الخط -

يكشف توالي أيام العدوان الصهيوني الوحشي، على غزة، أن المقاومة الفلسطينية، لا تخوض حرب دفاع شرسة ومشرفة، مع الجيش الإسرائيلي المقهور، وإنما تخوض كذلك معارك لا تنقص شرفاً، على واجهات أخرى لا تقل أهمية استراتيجية.

ذلك أن مشاهد الالتحام البطولي والأسطوري، لمقاتلي فصائل المقاومة بغزة، وهم يجهزون على جنود الاحتلال وآلياته، من المسافة صفر بقدر ما تحشد همم الشعب الفلسطيني ومعه كل أحرار العالم، وتشير إلى تفوق عسكري وإعلامي وقيمي، بقدر ما هي في أبعادها وتداعياتها، مشاهد التحام تجري كذلك من المسافة صفر وتحت الأضواء الكاشفة، مع مفاهيم ومسلمات وسرديات، وشعارات ظل تحليلها وتمحيصها يتمان بالانطباعات والمؤشرات وآليات أخرى.

إن المقاومة الفلسطينية وهي تعمم مشاهد المعارك التي تخوضها في الميدان، وتوثق انتصاراتها ودحرها جنود الجيش الإسرائيلي، تحت القصف الجوي والصاروخي والمدفعي، فإنما تشرك في الالتحام من المسافة صفر كل من يتابع ويشاهد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في غزة، سواء كان من المعنيين مباشرة من العرب والمسلمين، الذين تجمعهم مع سكان غزة قرابة الدم والدين، أو عموم مَن لا تزال ضمائرهم حية من باقي الحضارات، لكن في أبعاد أخرى ليست عسكرية. 

لقد جعلت المقاومة الفلسطينية بصمودها وبإدارتها معركة طوفان الأقصى، العالم يلتحم من المسافة صفر مع حقيقة إسرائيل، عسكرييها وسياسييها ومستوطنيها، وكشفت أنها دولة نازية متعطشة للدماء والدمار، ونزعت عنها كل مساحيق الدولة الحديثة المتباهية بالديمقراطية وحقوق الإنسان وأخلاقيات الحرب والنزاعات المسلحة، وأظهرتها في صفتها الأصلية، عصابة من المحتلين التوسعيين الرافضين عقيدة الآخر، مهما كان جنسه أو سنه، فضلاً عن دينه وعرقه، وهو ما تنقله وسائل الإعلام عقب كل قصف همجي يطاول المستشفيات والمدارس التي تأوي النازحين والمخابز ودور العبادة ومساكن المدنيين.

لقد جعلت المقاومة الفلسطينية الباسلة العالم يلتحم من المسافة صفر مع أرباب دولة إسرائيل وشركائها الأصليين ومموليها المعتمدين، ويرى الناس أجمعين رأي العين، ما كان حبيس التحليل السياسي والتناول الإعلامي، للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ويلمسون أن إسرائيل ما كانت لتكون لولا رغبة وإرادة منظري النموذج الغربي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، القائمة في الأصل على القتل والتهجير، وعلى فكرة السمو والتعالي عن باقي خلق الله، وهذه الحقائق فضحت نفسها بتداعي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، إلى قصف غزة، بعد أن تكلّفت إسرائيل بنهش ما فوقها ومن عليها نهش الوحوش الضارية. 

لقد جعلت المقاومة الفلسطينية الباسلة العالم يلتحم من مسافة صفر، مع أرباب دولة إسرائيل وشركائها الأصليين ومموليها المعتمدين

لقد جعلت معركة طوفان الأقصى شعوب العالم تلتحم من مسافة صفر مع ادعاءات حقوق الإنسان، وحقيقة تبني إسرائيل هذه الحقوق، وبيّنت إلى أي حد يتبنى الغرب حقوق الإنسان بمختلف أنواعها ومجالاتها وأجيالها.

فأي جيل وأي مجال وأي نوع، تراعيه إسرائيل في عدوانها على غزة، أو يدافع عنه الغرب، مهد الحديث والنقاش حول حقوق الإنسان، والجميع يتابع الضغوط تلو الضغوط لإدانة المقاومة الفلسطينية المدافعة عن أرض شعبها المحتلة، في محاولة سلبها حقها الذي تكفله كل الشرائع وكل المواثيق.

وعن أي حقوق فردية أو جماعية، مدنية أو سياسية، اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها، يمكن أن يصدق أي متابع للعدوان الإسرائيلي على غزة، أنها موجودة، وأن الغرب يتمثّلها ويدافع عنها، ويجعل لها مؤسسات أممية، ظهر أنها هي الأخرى، من مسافة صفر، أنها حديقة خلفية للولايات المتحدة الأميركية راعية إسرائيل بلا حياء. 

ومن مسافة صفر كذلك، التحم الشعب الفلسطيني، وخاصة سكان غزة، ومعهم باقي الشعوب، مع معاني خذلان الأقارب والجيران، فلم تنفع صور التقتيل والتهجير، والحصار والمنع من أبسط متطلبات الحياة، في دفع الأنظمة العربية والإسلامية، لاتخاذ قرار واحد جريء يعكس النصرة الحقيقية لشعب يباد على الهواء مباشرة. وظلت الأنظمة توزع البيانات والبلاغات المحدودة الأثر والتأثير، التي صاغتها بأسلوبين، أسلوب الضعف والجبن والهوان أمام من يرعى إسرائيل، وأسلوب يراقب تحركات شعوبها، ويدعي التماهي مع مواقفها الرافضة العدوان والخذلان والهوان.

أما من يتقاسمون مع المقاومة الفلسطينية العقيدة والمرجعية الدينية، وكل من يريد التعرف على هذا الدين، فإن معركة طوفان الأقصى وفرت لهم فرصة الالتحام من مسافة صفر، مع المعاني العظيمة للإسلام والقرآن، معاني الجهاد في سبيل الله، ومعاني النضال من أجل القضايا المشروعة، والتضحية بالدم والأهل من أجلها، وقبل ذلك جانباً من التمثل السليم لقيم الإسلام في الملبس والمأكل والتفكير والأهداف والغايات، وكل ذلك يمكن تلمسه في تصريحات سكان غزة المكلومين والمظلومين، وفي تصريحات الناطقين باسم فصائل المقاومة وقياداتها السياسية.

إن هذه الالتحامات من مسافة صفر، التي وفرتها المقاومة الفلسطينية بقتالها وإدارتها المعركة، وبصمود شعبها، هي من حركت الشعوب في كل أرجاء العالم، وقدمت لها صورة مكتملة الأجزاء، واضحة الأبعاد، فخرجت ولا تزال في مسيرات وفعاليات تدين العدوان الإسرائيلي الذي يهدد كل الشعوب، بما أبان عنه من قيم التوحش التي لا تعترف بالإنسان ولا بحقوقه ولا بضرورة التعارف والتعايش من أجل تحقيق الأمن المشترك.

طوفان الأقصى معركة من مسافة صفر، مع مفاهيم لم يعد هناك مجال للبس فيها، وباتت عارية أمام الجميع، بل إنها التحام من مسافة صفر مع نموذج مفلس ثقافياً وسياسياً، لم يكن أهلاً لقيادة البشرية، ومن الحماقة مواصلة الإحالة عليه كنموذج مرجعي، والأكثر حمقاً إذا لم يتقدم من يتقاسمون مع المقاومة الفلسطينية المرجعية الدينية نفسها، بصياغة نموذج بديل قادر على قيادة العالم، أو طرحه في سوق النماذج الحضارية على الأقل، بعد هذا الفاصل الإشهاري الذي صرف عليه سكان غزة والمقاومة الغالي والنفيس، وسيكون ذلك أدنى مستويات الوفاء للشهداء الأبرار الذين ارتقوا في هذه الحرب ذات الأبعاد الحضارية. 

C38F0356-1EA8-496F-8B2B-918413201A10
C38F0356-1EA8-496F-8B2B-918413201A10
حسن حمورو
كاتب ومدوّن مغربي.
حسن حمورو