"طنطورة": عندما تعري الصورة تاريخ نتنياهو
ظهر منذ عدة أيام رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في لقاء مطول بصحبة المختص النفسي المعروف جوردان بيترسون. امتد اللقاء إلى أكثر من ساعة تحدث فيها الاثنان عن كتاب نتنياهو الجديد والذي يحمل عنوان "BiBi my story"، والذي يقوم من خلاله بتسليط الضوء على مسيرته السياسية والتاريخية وتكريس السردية الإسرائيلية بحقهم في أرض فلسطين.. على أنهم اتوا إلى أرض كانت جرداء وصحراء ولم يكن فيها أحد وأقاموا عليها وأشادوا عليها ما أشادوا.. وأن العرب حينما رأوا هذا التطور الذي أحدثه الإسرائيليون في أرض فلسطين بدأوا بالهجرة إلى هذه الأرض والاستيطان فيها والحياة فيها والعمل فيها.. حتى وصل فيهم الأمر إلى رغبتهم في طرد اليهود منها وإبقاء الأرض لهم وكل ما عليها..
يكمل نتنياهو في حديثه عن "الأخلاقيات" التي تحلت بها الدولة الإسرائيلية خلال إنشائها للتحالفات الدولية، وكيف استطاع جده ووالده وهو نفسه، إقناع صناع القرار الأميركي بضرورة وجود حليف لهم في الشرق الأوسط، وذلك لإيقاف التمدد الإيراني الذي سيغزو العالم بفكره المتشدد، فبهذا الشكل تكون المعادلة قد اكتملت وتكون دول العالم الغربي وسكانها قد تمت حمايتهم والحفاظ على سلمهم واستقرار حياتهم من أي تمدد إيراني.
وفي سياق الرد على الرواية الرومنسية "الأخلاقية" التي ابتدعها واخترعها نتنياهو في كتابه، تأتي رواية أصلية مغايرة، على يدي مخرج إسرائيلي هو Alon Schwarz، الذي عرض فيلمه الوثائقي (طنطورة) في أكثر من مهرجان سينمائي حول العالم، وأهمها (Sundance)، ولقي إشادات عديدة من النقاد وصانعي الأفلام والصحافيين.
يتحدث الفيلم عن المجازر التي قامت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي وعصاباتها في عام 1948 بحق السكان الأصليين (الفلسطينيين) في قرية طنطورة. وقام المخرج شوارتز بتغطية هذه المجزرة وتوثيقها عبر شهادات من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، ولكن الفارق هذه المرة هو وجود اعترافات من جنود إسرائيليين سابقين قد بلغوا السبعين أو الثمانين، بالمجازر التي قاموا بها، وأعداد الأشخاص الذين أجهزوا عليهم، حتى أن أحدهم اعترف باغتصاب فتاة في السادسة عشرة من عمرها.
يتحدث الفيلم عن المجازر التي قامت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي وعصاباتها في عام 1948 بحق السكان الأصليين (الفلسطينيين) في قرية طنطورة
يقول شوارتز، مخرج الفيلم، إن منكري المحرقة اليهودية يذهبون إلى نقاش التفاصيل الصغيرة ليقوموا بالتغطية على المحرقة والمأساة الكبرى، والمجتمع والحكومة الإسرائيلية اليوم يقومان بالشيء ذاته، فينكران الفظائع التي قام بها الإسرائيليون.. يقاطعه أحد الحضور ويسأله: "ألا تعتقد أن الفلسطينيين قاموا أيضا بالمجازر تجاه الإسرائيليين؟"، فيجيبه شوارتز بأن الفلسطينيين أيضاً قاموا بمجازر، ولكن إذا نظرنا إلى نكبة 1948 سنجد أن أعداد المجازر التي ارتكبناها (أي الإسرائيليين)، والتي على أثرها قمنا بتطهير عرقي وإثني، تفوق بأعدادها أضعاف المجازر التي قام بها الفلسطينيون. ويتعجب شوارتز خلال حديثه من الطريقة التي تم فيها مسح وتجميل التاريخ الإسرائيلي. ويضيف أيضاً أن كراهية العرب تمت زراعتها في أدمغتهم منذ الطفولة، "العرب يكرهونكم وسيقتلونكم"، ولكنه يؤكد (في إشارة إلى الحكومة الإسرائيلية والمجتمع)، أنهم لم يذكروا يوما من الأيام لماذا يكرهنا العرب، ولم يذكروا بأننا قمنا بمذابح بحقهم، لم يعلمونا ذلك في المدارس أبداً.
أعتقد أن فيلم المخرج شوارتز فتح باب الحقيقة على مصراعيه، مواجهاً الرواية الرومنسية للحكومة الإسرائيلية، والتي كانت بطريقة ما قادرة على نشرها وتعميمها عبر لوبياتها وسيطرتها على كبرى المؤسسات الإعلامية العالمية. ويلخص المفكر والباحث عزمي بشارة الرواية الأصلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي في محاضرته "مستقبل القضيّة الفلسطينية ومآلاتها في ظل الوضع الراهن"، بقوله: "وقع الشعب الفلسطيني ضحية استعمار كلاسيكي (بريطاني) مهد لاستعمار اخر استيطاني إحلالي (إسرائيلي)، ومن لا ينطلق من هذه الحقيقة التاريخية لا يعتبر القضية الفلسطينية مشروعة أو قد يعتبرها في أفضل الحالات نزاعا فلسطينيا إسرائيليا معقدا".
ولو بحثنا في تاريخ أكبر داعمي الدولة الإسرائيلية، الولايات المتحدة الأميركية، لوجدنا أن أميركا وإسرائيل تتشاركان الأدبيات نفسها، ويلخص الدكتور والباحث جوزيف مسعد هذه الحقيقة، في لقاء له ببرنامج "المقابلة" على قناة "الجزيرة"، حيث يقول: "إن أميركا مثل إسرائيل دولة استعمارية استيطانية تؤمن بالتخلص من السكان الأصليين، وأن تبني حضارتها على حسابهم"، والتاريخ يتحدث عن كلتا الدولتين كيف قامتا بمجازر بحق السكان الأصليين، وقامتا بعمليات تطهير عرقي وإثني، واليوم يأتي فيلم "طنطورة" ليؤكد هذه الحقيقة.
وبالعودة إلى حديث نتنياهو مع بيترسون، نلاحظ أنه كان دائما ما يحاول أن يحافظ على فكرة "رومنسية العودة إلى أرض الوطن، أرض الأجداد"، والحقيقة علينا أن نعترف بأن الإسرائيليين لديهم خبرة ومعرفة، ولديهم أيضا القوة لمخاطبة الغرب بالطريقة التي يفهمها الغرب ولا نفهمها نحن العرب، فهم في النهاية صنيعة هذه الدول الغربية وحداثتها، على العكس من روايتنا العربية "المناضلة" التي وصمها اليسار العربي بالعنف وخطف الطائرات وتفجيرها، ثم أكمل التطرف الديني سوداوية الصورة بعمليات الخطف والذبح.