"صوملة المعرفة" كحل للمعضلة الصومالية!
كأي مجتمع من مجتمعات العالم، يواجه المجتمع الصومالي تحدّي بناء المعرفة بلغته الصومالية. ويمكننا أن نتفهم الأمر بسبب غياب لغة صومالية مكتوبة ومقروءة إلى وقت قريب، ولا غضاضة في ذلك، إذا علمنا أنّ بعض الذين كتبوا اللغة الصومالية في السبعينيات ما زالوا على قيد الحياة، فضلاً عن عمرها القصير الذي لا يتجاوز خمسين سنة.
لا يمكننا لوم الشعب الصومالي على هذا، وهو الذي كان يعيش مرحلة ما قبل الدولة، وأصبح فجأة بعد مغادرة الاستعمار ممسكاً بزمام إدارة دولته الوليدة، ليتوحد الإقليمان، الشمالي والجنوبي، ويشكلا الدولة الصومالية، ومن ثم جاءت مرحلة ركوب موجة القومية والشيوعية، وبعدها الحروب الإقليمية والداخلية التي انتهت بسقوط الدولة الصومالية.
الشيء الوحيد الذي نجح فيه الصوماليون في تلك الفترة، كتابة اللغة الصومالية، فأصبحت لدينا لغة مكتوبة، نتخاطب ونتراسل بها. وهذا الإنجاز أنقذنا، لأنّ اللغة هي الجسر الذي تعبر منه المعرفة والأفكار والعلوم، لأنّ المعرفة، بطبيعتها، مشترك إنساني عام، إذ ليس هناك معرفة ذات خصوصية لشعب معين، بحيث يمكن القول معها إنه لا يحق للآخرين التعلّم منها. ما يعني في النهاية، أنّ المعرفة حقل إنساني مشترك، يزرع كلّ شعب فيه ما يملك لتأكل من ثماره كلّ الشعوب. وهذه الزراعة تحتاج إلى جهود ضخمة ومستمرة إلى حين الوصول إلى مرحلة، أسميها مرحلة "صوملة المعرفة"، أي وجود معرفة مكتوبة باللغة الصومالية، بحيث تكون المعرفة متاحة ومكتوبة بلغتنا وبمتناول الجميع.
للعبور إلى هذه المرحلة والوصول إلى محطة "صوملة المعرفة"، نحتاج إلى استخدام الترجمة، وهذه الترجمة تحتاج جيوشاً مجيّشة ومتطوعين كثراً. لكن السؤال الكبير الذي يواجهنا هنا: بأي مجال نبدأ؟ وهل ستكون هذه الترجمة منسّقة أم عشوائية؟
المعرفة حقل إنساني مشترك، يزرع كلّ شعب فيه ما يملك لتأكل من ثماره كلّ الشعوب
نعتقد أنّ وجود ترجمة منسّقة شبه مستحيل، ذلك أنّ مثل هذه الأعمال بحاجة إلى متخصّصين ومؤسسات مختصّة وميزانيات ضخمة، والمؤسسة الوحيدة التي أنشئت في جيبوتي، والمسمّاة الأكاديمية الإقليمية للغة الصومالية، ورغم وجود فروع لها في الإقليم الصومالي الإثيوبي والعاصمة مقديشو، إلا أنها غير فعالة بسبب الانقسامات السياسية الصومالية ــ الصومالية.
ولكي نتجاوز هذه الانقسامات، أصبح من الضروري تدشين مرحلة جديدة أسميها مرحلة العبور، أي أن يقوم كلّ صومالي ملمّ بلغة أجنبية بالترجمة منها إلى اللغة الصومالية، اليوم وليس غداً.
يعاني المجتمع الصومالي من معضلتين أساسيتين، هما معضلة الدولة ومعضلة القبيلة. ففي الفضاء الصومالي تعتبَر هاتان المعضلتان متشابكتين ومتشعبتين، لأنهما تمثلان لبّ المشكلة التي نعاني منها، ولأنّ علاجهما ضروري، فإننا نقترح أن تكون الترجمة كخطوة أولى في هذا الاتجاه، وفي الحقول الثلاثة الآتية:
(1): حقل العلوم السياسة: ما زال الشعب الصومالي يواجه معضلة بناء الدولة وإدارتها وتوظيفها لتكون في خدمته. كذلك إنّ غياب المعرفة المكتوبة باللغة الصومالية ساهم كثيراً في إفقار البيئة الثقافية وفاقم معضلة الدولة لدى الصوماليين. ولأن إدارة الدولة وتنمية مؤسساتها، فضلاً عن عقد اجتماعي يضبط إيقاع عملية إدارة الدولة والاختلافات الداخلية، ولأنّ الوعي لا ينبني بالفراغ بل بالمعرفة، فإننا نؤكد ضرورة ترجمة العلوم السياسية، وكلّ ما له علاقة في مسألة الدولة، سواء القانون أو الفلسفة السياسية أو...، وذلك لأننا بحاجة ماسة إلى هذه العلوم لتكون في متناول الجميع، عسى أن تسدّ ثغرة أو تبني جداراً كنّا بحاجة إليه.
غياب المعرفة المكتوبة باللغة الصومالية ساهم بشكل كبير في إفقار البيئة الثقافية وفاقم معضلة الدولة لدى الصوماليين
(2): حقل العلوم الإنسانية: اقتراحنا هذا لا يقلّل من أهمية العلوم التطبيقية، بل يؤكد دورها في إطار التنمية والتطوّر التكنولوجي وحجز مقعد في مقصورة قيادة العالم. ولكن لكلّ أمة أولوياتها الخاصة بها، ومن هنا ندعو إلى مبادرة ترجمة العلوم الإنسانية، خاصة علم الاجتماع السياسي، والأنثروبولوجيا واللسانيات... وأهمية هذه العلوم تكمن في قدرتها على تزويد القراء بأدوات التحليل والتفكيك والتشخيص لفهم القضايا المثارة. وكذلك قدرتها التوليدية للأسئلة الكبرى ومناقشتها، ومن ثم بحث الإجابة عنها وتقديم حلول لها، وهو ما نحن بحاجة ماسة إليه من أجل التغلّب على العقلية القبلية أو تقليل حدّتها، وفتح آفاق النقاش دون خجل أو مواربة.
(3): حقل العلوم الشرعية: كان الإسلام العنصر الوحيد الذي وحد الصوماليين على مرّ القرون وحتى وقتنا هذا. لكن مع دخول الفكر المتشدّد الذي تمثله حركة الشباب الصومالية تغيّر الوضع، إذ وجد هذا الفكر طريقه إلى بعض فئات المجتمع الصومالي، مستفيداً من حالة الفراغ الذي خلّفه غياب الدولة الصومالية. ومع إنشاء الدولة الصومالية الفيدرالية، ما زال الصراع محتدماً في الجنوب الصومالي عسكرياً، وما زال حوار البنادق مستمراً. أما في المناطق الأخرى من البلاد، فما زال الفكر المتشدّد حاضراً، وإن بمستويات مختلفة حسب الظروف والمكان. ولكي نهزم هذا الفكر الدخيل على الصوماليين، نحتاج إلى إعادة قراءة الفكر الديني، ولكن هذه المرة بلغة صومالية، هذا إذا أردنا الانتصار على حركة الشباب فكرياً، لا عسكريا فقط. إن قراءة الفكر الديني والعلوم الشرعية باللغة الأم هو في اعتقادنا من أفضل الحلول، ذلك أنّ وجود كتب العلوم الشرعية بلغة صومالية، وبمتناول الجميع، هو المدخل الأول لسحب البساط من تحت أنصار الفكر المتشدّد. ويضاف إلى ذلك دور العلماء من أجل تبيان سماحة الإسلام وسعته، وتمييز ما هو ديني مما هو فكري، والذي هو نتاج فهم وتفسير بشري قابل للإثبات والنقد أو الدحض.
تناولنا أعلاه أهمية ترجمة المعرفة إلى اللغة الصومالية، بحيث تكون هناك معرفة مكتوبة باللغة الصومالية، ولكن إنجاز هذا العمل الدؤوب يبقى بحاجة إلى إنشاء معاجم عربية/ صومالية، إنكليزية/ صومالية، فرنسية/ صومالية... على الأقل في الحقول الثلاثة التي ذكرناها.
ندرك جيداً صعوبة ذلك، ولكنها ليست مهمة مستحيلة بطبيعة الحال، لأنّ أي عمل يبقى أفضل من اللاشيء.