صنّاع الأمل

صنّاع الأمل

15 مارس 2024
+ الخط -

"والله بفرح لما بلاقي وجه بعرفو لسّا عايش". غرزت الجملة التي قرأتها في تقريرٍ لزميلٍ غزّاوي عميقاً في قلبي لحظة قراءتها. فاضت دموعي، مع أنّ قائل الجملة، الحاج محمود، بائع الخروب والجلاب والعرق سوس الرمضاني في شارع الجلاء في غزّة قالها وهو يبتسم، كما نقل عنه الزميل الذي قابله.

غرزت الجملة في قلبي لأنّها، ومنذ لم يعد للكلام عن محنة الغزّاويين غير المسبوقة في التاريخ الحديث من طعم لكثرةِ التكرار، فإنّ تلك الكلمات أوفت بكلّ المعاني التي يُمكن الحديث عنها اليوم في القطاع الذي، على ما يبدو من أخبارِ هذين اليومين، لن تنتهي جلجلته قريباً.

كانت الطائرات الإسرائيلية قد أغارت أوّل رمضان وقت السحور على المنطقة هناك في شمال غزّة، واستهدفت منزلًا في جباليا دمرته وسوّته بالأرض، كما دمرت، في طريقها، الحي الذي بدا حسب وصف الزميل الذي قصد المكان لتفقده ونقل ما حصل، وكأنّ زلزالًا قد أصابه. 

يكتب الزميل مذهولاً، وهو الذي لم يتوّقف يومًا عن التغطية في كلّ مكانٍ من القطاع، أنّه وبالرغم من كلّ ما تقدّم، فإنّ الناس قاموا ليومهم الرمضاني الأوّل في الحي، فزيّنوا ما بقي واقفًا وصامدًا من المنازل بما تيّسر من شبيه الفوانيس المرتجلة والأوراق الملوّنة، وانطلق الأولاد والشبان، أو بالأحرى من تبقى منهم، "كعادتهم كل عام" للعب كرة الطائرة ساعة العصر بانتظار ساعة الإفطار على ما تيّسر، لو تيّسر.

أن تباشر يومك كما لو كان مجرّد القيام بذلك نوعاً من المقاومة، فإنّ في ذلك ما يبث الأمل بين الناس

 

وعلى ما تيّسر تؤكد النساء أنّهن وأهل بيتهن يفطرن. وبدلًا من الشكوى من فقدان كلّ ما قد يُؤكل بعد يوم الصيام من لحومٍ أو خضار، وهي شكاوى لم يعد منها نفع، إلا أنّهن قلن، وهنّ مبتسمات: "صحيح ما في أشي وإنه مناكل ما تيسر، لكن والله الأجواء على الفطور حلوة. وعلى السحور أحلى"، وتضيف سيدة أخرى: "منشرب كاسة شاي ومية ومنحمد الله ونشكره". 

اكتشف فلسطينيو غزّة أنّ الفرح يقهر العدو، فاستعدّوا له بابتسامات زيّنت أفواههم الجائعة، المضمومة دون التذمر. تكتفي إحداهن، في مقالة أخرى بالقول: "والله منعدي كل يوم بيومه"، وتضيف جملة أخرى موجعة "يرزقنا الله بما يرزق الطير". 

حسنا، صحيح أنّ الغزّاويين لا خيارات لديهم لكي يفعلوا شيئاً آخر. وأنّه ربّما، لو فُتِح معبر رفح لنزحت الكثير من العائلات من هذا السجن/ المسلخ، بالرغم من خطر اللاعودة. ومع ذلك، أنّ لا تبقى في زاويتك وأن تباشر يومك كما لو كان مجرّد القيام بذلك نوعاً من المقاومة، فإنّ في ذلك ما يبث الأمل بين الناس، ويضاعف القدرة على الصمود، ويطمئن إلى حدٍّ ما قلوب الخائفين أمثالنا من بعيد مما يُبيّت لأهل القطاع الذين تحالف الكوكب عليهم لتهجيرهم وتشريدهم بعيدًا عن أرضهم. 

مئات الصحافيين يقومون بتغطياتٍ ميدانية لما يحصل في غزّة، تُضاف إليهم عشرات القنوات الإخبارية الأجنبية والعربية التي تبث مباشرة وعلى مدار الوقت، غير منصات السوشل ميديا المتعدّدة. وجهد كلّ هؤلاء المتفاني لا يقّدر بثمن، خصوصاً مراسلي الداخل الذين يخاطرون بحياتهم، فعلياً وحرفياً، وعلى مدار الساعة، لنقل صورة ما يحصل. 

اكتشف فلسطينيو غزّة أنّ الفرح يقهر العدو، فاستعدّوا له بابتسامات زيّنت أفواههم الجائعة، المضمومة دون التذمر

لكن صورة ما يحصل لا يمكن أن تكون دائما هي ذاتها بدون أيّ تفاصيل أخرى عن الحياة التي تستمر. وكما في كلّ مهنة أو مجال، هناك قلّة موهوبة تعرف كيف تلتقط المزاج العام حين يلوح لها شيء مختلف، وتعرف متى وكيف تنقله. تفهم أنّ التكرار والاكتفاء بتعداد المصائب والمجازر (وهو لا شك ضروري للتوثيق) يؤدي إلى تبلّد المتلقي، ولو كان من أشدّ المناصرين، وخاصة أنّ الغالبية غيرهم تقوم بهذا الجهد. وأنّه لا بدّ من الإنصات بانتباه لما يقوله الناس، ولو كان مختلفاً عن المتوقع، فهذا بالضبط ما يضيف إلى المشهد المتكرّر والمفرغ بذلك من معناه، ما قد يجدّد قوّته ويحمله طاقة جديدة على إيصال المعنى.

ولذا يكثر الصحافي من الأسئلة حيث يشعر بأنّ هناك فرصة لإضافة. وهذا ما فعله الزميل يوسف فارس، الذي بدا أنّ الجملة أعلاه كانت موجهة له كونه وبائع الخروب من المعارف.

يستفهم الزميل من الحاج محمود عن مغزى فرش بسطته الرمضانية الهزيلة والبلاد في ما هي فيه من جوعٍ وفقرٍ وقصر ذات اليد، فيجيبه الرجل بأنّ العمل في أوضاع كهذه "صحيح أنه متل قلته، لكن والله ما بيهون عليّ اقعد في البيت وأنا من أربعين سنة ببيع عرق سوس وجلاب وخروب برمضان"، ويستطرد: "خصوصاً السنة هاي في مسؤولية وطنية وأخلاقية ودينية إنه اطلع وأشوف الناس حتى لو ما بدي استفيد إشي. إشعار الناس بالأمل وإنه احنا متمسكين بالحياة على هذه الأرض، هي رسالة سامية بحد ذاتها".

تصديقاً لكلامه، رجل آخر في الجوار، أستاذ سبعيني متقاعد كان قد عكف على تنظيف باحة بيته التي يبدو أنّ ورودها نجت من القصف، يقول: "والله ما بيومي حبيت زينة رمضان، مخي صعب شوي، لكن قررت ازين البيت من جوا وبرا، وعلقت صور أولادي الشهداء وحطيت تحت كلّ صورة فانوس لأني شعرت إنه صناعة الأمل والفرح مسؤولية علينا كلنا". ويضيف: "عدونا بدو إيانا محبطين ويائسين وجائعين، لهيك الفرح أو حتى التظاهر به هو فعل مقاومة". 

هذا ما قاله الناجون من مجزرة السحور في جباليا. ألا يعني ذلك أنّه صحيح؟ بلى ورب غزّة.