صراع ثلاثية الإنتاج العقيم
نهارات الثلاثية الآتية: القلق والتشتّت والاكتئاب، تكون عقيمة من الناحية الإنتاجيّة أغلب الأحيان، لذلك قرّرت تسميتها: ثلاثية الإنتاج العقيم. جلّ ما أفعله في هذه النهارات الهرب مني ومن الحديث مع من حولي بطرق مختلفة، أو الرضوخ في الحالات الحرجة تخفيفاً لعويل تدمير الذات التلقائي. ولأنّ هذه الأيام موجودة، فالاستعداد لها واجب، وهنا نتحدث عن اليوميات.
الشمس تثقب مخّي، أشعر به ينزف رغم أنف ديسمبر/ كانون الأول، وتنزف نفسي معه. قلت: "جميل، لا يزال الصباح، يومٌ لعين بإذنه...".
حملت نفسي، وما أصعبني على نفسي، من دون أن أشارعها، متوجهة بها نحو القهوة. فهي تعلم أنّ العمل وشرب القهوة أساسيّان، أقيس من خلال فعلهما سوء حالتي. شارع بائس، تكثر به الحانات. حياته الليليّة مليئة بفقّاعات من الضجر. تفتح الموسيقى ورومانسية الأضواء أبوابها ترحيباً بأزمات البشر على أنواعها. لكن أذكر أنّ أمس لم يكن هنالك الكثير من المجيبين، كأيّ ثلاثاء. استرقتُ النظر داخل الحانات. انتباهي بدا كثير التشتّت مؤخَّراً، اتجاه البشر ووجوههم، وقليلاً ما أنتبه إلى أنني لا أنتبه. أرغب أحياناً بقصد، الإمعان في تعابيرهم وتجاعيدهم. لكن كلّما أذكّرُني بأن أفعلُ، أندم. إذ هي متشابهة، كتالوغ واحد للجميع، وهكذا، فلستُ أفقه حال أي منهم بكلّ الأحوال. شعور عقيم من الخذلان وسوء التواصل. لا يهم. شردت. الحانات بألوانها بدت حقيقية أكثر هذه الليلة، ربما لأنها شبه فارغة، أو ربما من كشّ الجالسين للذباب.
قذارة الواقع في هذه الأزمة تريد جلدًا سميكًا وعملاً دؤوبًا. وشتّان ما بيني وبينهما
كان من المفترض أن أبدأ البحث حالما وصلتُ، "تبقّطتُ" القهوة مع سيجارتي العفنة. لديّ مقال لأكتبه. زمط موضوع المقال من ذاكرتي، قلت: لا حول ولا قوة... يا رجل، يجول في مخّي كلّ شيءٍ إلّاه. حسناً، لا بأس. لا داعي لتوبيخكِ. سلّمت المفاتيح لأصابعي. كتبت. علّي أن أجد طريقة أفهم بها ماذا أشعر. الـ"ماذا" فقط حاليّاً، والـ"لماذا" تأتي بعدها. لكن حتى هذه، فيها غصّة، لا البيتزا ولا السينابتيك يجديانها نفعاً، فصعوبة تجميع فتات المشاعر بأحرف متراصّة، علّي أراني فيها، جهد فردي جهيد. قلت: "لا بأس أيضاً. لنشترِ الوقت".
لا طاقة للبحث اليوم. ربّما حيَّدت ذاكرتي موضوع المقال لأنها اعتبرته غير ذي أولويّة. مواضيع خارجية لا يُجدي التقرير عنها نفعاً بشيء. ربّما كان يجدي. لكن قذارة الواقع في هذه الأزمة تريد جلداً سميكاً وعملاً دؤوباً. وشتّان ما بيني وبينهما. أحاول استقبال الصباحات فقط هذه الأيام، لا جلداً ولا دؤوباً.
لكن حتّى في قولي هذا كذب وهروب. أعلم، فبالرغم من أنني أرى انسحابي الحالي مسؤوليتي تجاهي، إلا أنّ الأزمة، لا شكّ، بحاجة للاستعداد الفردي والجماعي، وتدعيم التشابك بين النفس والنفس، وبينها والمحيط. وهنا تكمن الإشكالية، لكن ما علينا. أساساً، أرى أنّ هنالك شرخاً من فراغ بين النفس والمحيط، والعمل على وصلهما صعب، على الأقل من جهتي. ها هو القلق يلتفّ حول عنقي ليخنقني. ما لي وما لهم؟ تدعيم ماذا ولماذا الآن؟