شح الدولار وأزمة مصر الاقتصادية
منذ عام 2013، وبعد إزاحةِ جماعةِ الإخوان المسلمين عن الحكم، دخلت مصر في أزماتٍ اقتصاديةٍ عديدة، سبّبتها السياسات غير المدروسة التي مارستها الحكومات التي تعاقبت على إدارة البلاد منذ نحو 10 سنوات مضت، والتي كانت أخطرها على الإطلاق تلك المشاريع العملاقة التي بدأت دون دراسات جدوى، وأثبت في ما بعد أنها كانت، فقط، لرفعِ الروح المعنوية للشعب المصري، كما قال الرئيس السيسي.
يرى البعض ممن يؤيدون الحكومة الحالية برئاسة المشير السيسي أنّ الشعب يعيش نهضة اقتصادية وعمرانية واجتماعية وثقافية غير مسبوقة، فيما لو تحدّثنا معهم بالأرقام سيلقون باللوم على المؤامرات الخارجية، ويُحدّثوننا عن أنّ بلادنا مستهدفة، ويجب على الجميع الصمت وعدم الشكوى من الفقر وضيق الحال وغلاء الأسعار في مواجهة العدو.. هؤلاء ليست لديهم معرفة، ولا يملكون نظريات علمية لما يتحدثون به، هم فقط منساقون للأبواق الإعلامية التي تغذّيهم بمشاعر تفصلهم عن الواقع، وتنسج لهم خيوط الوهم التي تُخفي حقيقة الأمر.
دائمًا ما تُعلّق الحكومات فشلها في حلِّ الأزمة الاقتصادية على شح الدولار وعدم كفاية النقد الأجنبي في المساعدة على التطوير، وكذلك السوق السوداء التي تحرم البلاد من الدولار لصالح رجال أعمال وجماعات بعينها، إلا أنّ بيانات الجهاز المركزي للإحصاء أفادت بأنّ متحصلات مصر من النقد الأجنبي خلال الـ10 سنوات الماضية تجاوزت تريليونا و293 مليار دولار.
تكمن الأزمة في غياب الرؤية التي تُعاني منها الحكومات المتعاقبة في مصر
وأشارت بيانات الجهاز إلى أنّ إجمالي مدخول مصر من الدولار في عام 2013/ 2014 كان 111.748 مليار دولار، وفي عام 2014/ 2015 جمعت نحو 119.725 مليار دولار، وفي 2015/ 2016 بلغ 171.841 مليار دولار، فيما سجل إجمالي النقد الأجنبي في 2016/ 2017 نحو 104.271 مليارات دولار. وارتفع في عام 2017/ 2018 ليصل إلى 125.038 مليار دولار، وفي عام 2018/ 2019 بلغ 122.125 مليار دولار، وسجل 128.948 مليار دولار في عام 2019/ 2020.
وكشفت البيانات الواردة أنّه في عام 2020/ 2021 بلغت المتحصلات النقدية الأجنبية 126.708 مليار دولار، وفي عام 2021/ 2022 ارتفعت إلى 160.538 مليار دولار، وفي آخر عام شملته الإحصائيات 2022/ 2023 بلغت حصيلة مصر من النقد الأجنبي نحو 121.900 مليار دولار. وبذلك يكون مجموع متحصلات البلاد من النقد الأجنبي خلال السنوات العشر 1.293 تريليون دولار كما أسلفنا، ولو تمّ تقسيم ذلك الرقم على متوسط عام سيكون 129.284 مليار دولار سنويًا، والمتوسط الشهري 10.774 مليارات دولار، بينما سجل المتوّسط اليومي لحصيلة النقد الأجنبي 359 مليون دولار.
ما هو التريليون دولار؟
التريليون هو رقم واحد وعلى يمينه 12 صفرًا، ولو قمت بإنفاق مليون دولار كلّ يوم منذ 2000 سنة حتى يومنا الحالي فلن تستطيع صرف كامل مبلغ التريليون، بل 700 مليار دولار فقط. ويمكنك مقارنة حجم التريليون بملعب كرة قدم حقيقي، وهو ما يماثل أيضا حجم طائرة بيونغ 747، بحسب تقرير سابق أوردته "روسيا اليوم".
الأزمة ليست في شح الموارد أو عدم وجود استثمارات أجنبية، أو حتى غياب دور القطاعات الرئيسية المهمة، بل في غيابِ الرؤية التي تُعاني منها الحكومات المتعاقبة. فمثلاً كيف أصبحت سنغافورة، وهي مجرّد جزيرة صغيرة في جنوب شرق آسيا، ولا تملك أيّة موارد طبيعية، واحدةً من أكثر الدول تطوّراً في العالم؟ هذا السؤال تفسّر لنا إجابته سبب تراجع النمو الاقتصادي في بلادنا. وليست سنغافورة وحدها التي نهضت، بل ثمّة دول عديدة أطلق عليها اسم النمور الآسيوية، وهي التي بدأت من الصفر لتصل إلى مصاف الدول الغنية وتنافس اقتصادات كبرى لديها تاريخ طويل من الاستقرار والإنتاج المستمر.
الاستدانة تضاعف أعباء الاقتصاد المصري، وتدفع الحكومة إلى البحث عن الأموال في جيوب المواطنين
سرُّ النجاح كما قال رئيس الوزراء المؤسّس لسنغافورة لي كوان يو: "إذا أردت أن تُنشئ حكومة جيدة، لا بدّ أن تُسلّم زمام المسؤولية فيها لأشخاصٍ جيدين". فالقيادة والمنهجيات السليمة المتبعة في رسم السياسات العامة، والخدمات المدنية العامة المؤهلة والفعالة هي التي تدفع الدول للنهضة وتؤسّس لبيئةٍ خصبة لاقتصاد قوي، فليس الدولار أو النفط هو الذي يحافظ على قوة الدولة الاقتصادية.
في فنزويلا، توجد احتياطيات نفطية مقدّرة بـ303.5 مليارات برميل، ولو ضربنا ذلك في متوسط سعر النفط الحالي 90 دولارا، سيكون لدينا رقم مهول وكاف لأن ينهض بأيّ دولة، ولكن سوء الإدارة رفع التضخم في فنزويلا إلى نحو 107%، مدفوعًا بحالة من عدم استقرار العملة التي بدأت في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2016 خلال الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المستمرة في البلاد.
كما أنّ الاستدانة ليست حلًا لمشكلاتنا الاقتصادية، وذلك ما أظهره مسحٌ نُشرت نتائجه في وقت سابق، أنّ اتفاقا موسعًا مع صندوق النقد الدولي واستثمارات إماراتية ضخمة لم يحقّقا بعد استفادة تُذكر للقطاع الخاص غير النفطي في مارس/آذار. فعمليًا، الاستدانة تضاعف أعباء الاقتصاد المصري، وتدفع الحكومة إلى البحث عن الأموال في جيوب المواطنين لسد العجز الذي يفاقمه الدين يومًا بعد يوم.