هل تستفيد سورية من تجربة العدالة الانتقالية في المغرب؟

24 ديسمبر 2024
+ الخط -

تشكل العدالة الانتقالية إحدى الركائز الأساسية للدول التي تخرج من عهد السلطوية إلى الانفتاح والديمقراطية، من خلال تمكينها من طي ماضي فظائع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتأسيس لآليات المصالحة ووضع ضمانات دستورية وقانونية للقطع مع الماضي بعدم تكرار ما جرى.

وتعد التجربة المغربية في مجال العدالة الانتقالية نموذجًا يمكن أن تستفيد منه بعض بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وتحديدًا ليبيا وسورية اللتان خرجتا من نظام بائد وتتطلعان إلى تأسيس نظام جديد منفتح وديمقراطي. مع الإشارة إلى أن المغرب لم يشهد حجم الانتهاكات الموثقة ضد النظام المخلوع في سورية، إضافة إلى أن التجربة المغربية تمت في إطار استمرارية النظام السياسي وليس في سياق القطيعة.

وكان المغرب قد أحدث هيئة الإنصاف والمصالحة التي حلت مؤخرًا الذكرى الـ20 على تأسيسها، بوصفها محطة تاريخية متميزة في ما كان يسمى حينها "العهد الجديد"، في ارتباط بمجال العدالة الانتقالية.

وقد لعبت الهيئة دورًا في إرساء مصالحة وطنية مؤسساتية شاملة مكنت المغرب عبر خطوة ذكية من طي صفحة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان للفترة الممتدة من سنة 1956 إلى 1999، والتصالح معها، والعمل على القطع بشكل نهائي في إطار التوجه نحو مستقبل قائم على احترام حقوق الإنسان وترسيخ العدالة.

وقد ساهمت هذه التجربة في بناء نموذج مغربي في مجال العدالة الانتقالية يحظى بالاهتمام اليوم في كبريات الجامعات، ويعد مرجعًا في المنتديات الحقوقية الدولية في موضوع العدالة الانتقالية، إذ أصبحت بخصوصيتها حاضرة إلى جانب تجارب دولية مماثلة في هذا الشأن كجنوب أفريقيا والشيلي.

كان الدخول في تجربة المصالحة الشاملة من خلال إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة يَظهر في البداية نوعاً من المغامرة السياسية غير محسوبة العواقب. لكن الإرادة السياسية للملك محمد السادس حينها للتوافق مع الطبقة السياسية والفاعلين الحقوقيين ساهمت في تبديد كل المخاوف وبعث الشعور بإمكانية إنجاز هذه المهمة الكبيرة، وهو ما سيبرز في خطاب الملك بمناسبة تنصيب هيئة الإنصاف والمصالحة، حيث جرى إطلاق من تبقى من المعتقلين السياسيين، أيضًا تمثل في مشاركة وجوه حقوقية وازنة وتحظى بالاحترام الدولي عهد إليها الإشراف على هذه المبادرة، وكذلك في المقاربة المختارة لهذه التجربة، وكذا المنهجية المعتمدة في هذا الشأن.

قدم الخطاب الملكي فلسفة اشتغال هيئة الإنصاف والمصالحة بقيادة الحقوقي البارز إدريس بنزكري بحثًا عن حقيقة ما جرى خلال سنوات الانتهاكات والتصالح معها وجبر الضرر الناتج عنها، من دون محاكمة التاريخ، على قاعدة قول الملك محمد السادس: "وإذ نستحضر الخمسينية المنصرمة، فإننا لا نريد أن نجعل من أنفسنا حكمًا على التاريخ، الذي هو مزيج من الإيجابيات والسلبيات. فالمؤرخون هم وحدهم المؤهلون، لتقييم مساره، بكل تجرد وموضوعية، بعيدًا عن الاعتبارات السياسية الظرفية".

انطلقت هذه الهيئة مما راكمته الهيئة المستقلة للتحكيم في سنوات التسعينيات من القرن الماضي، من أعمال في موضوع التعويض عن الأضرار المادية والمعنوية لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بعد قرار العفو الشامل عن كل المعتقلين السياسيين سنة 1994.

لقد اعتمد مهندسو هذه التجربة التاريخية شعار التغيير في إطار الاستمرارية، والكشف عن الحقيقة، والوقوف عند مسؤوليات أجهزة الدولة أو غيرها في الانتهاكات والوقائع موضوع التحريات، وجمع الشهادات والاطلاع على الأرشيف الرسمي، وتنظيم جلسات استماع علنية مع الضحايا. بمعنى، الكشف عن الحقيقة بكل موضوعية، والمساءلة المسؤولة والمحاسبة الرمزية، وحفظ الذاكرة الجماعية، وجبر الضرر وعدم تكرار الانتهاكات.

وفعلًا، لقد عاش المغرب لحظة استثنائية في مسار طي صفحة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ونتذكر جيدًا الشهادة المؤثرة للحقوقي أحمد حرزني التي نقلت على المباشر في الإعلام العمومي، وشكلت حينها حدثًا لاعتبارات تتعلق بطبيعة هذه الشخصية الحقوقية واليسارية التي خبرت سجون البلاد.

وسيتوج هذا المسار الحقوقي بامتياز، بخطاب شهير للملك محمد السادس انطلق من الماضي نحو الحاضر والمستقبل، إذ قال: "وإني لواثق أن هذه المصالحة الصادقة التي أنجزناها، لا تعني نسيان الماضي، فالتاريخ لا ينسى. وإنما تعتبر بمثابة استجابة لقوله تعالى: 'فاصفح الصفح الجميل'. وإنه لصفح جماعي، من شأنه أن يشكل دعامة للإصلاح المؤسسي. إصلاح عميق يجعل بلادنا تتحرر من شوائب ماضي الحقوق السياسية والمدنية. وبذلكم نعبد الطريق المستقبلي أمام الخمسينية الثانية للاستقلال، لتركيز الجهود على الورش الشاق والحاسم، للنهوض بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكافة مواطنينا، ولا سيما منهم الذين يعانون معضلات الفقر والأمية والبطالة والتهميش".

هذا الخطاب بمضامينه العميقة ودلالاته الرمزية القوية، سيغلق مرحلة من تاريخ المغرب بسلبياتها وإيجابياتها، وسيدشن مرحلة جديدة عنوانها المصالحة والحقيقة والإنصاف، مكنت البلاد من التخلص من ثقل سياسي كان يشوش على كل الخطوات الرامية إلى تحقيق مقومات وأسس دولة الحق والقانون والمؤسسات.

وجدت التوصيات الصادرة عن هيئة الإنصاف والمصالحة طريقها نحو دستور فاتح يوليوز 2011، بوصفه دستوراً للحقوق والحريات والحكامة الجيدة، إذ تمت دسترة مقتضياتها لتعزيز الحقوق الأساسية وترسيخها، وتوطيد ضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتوطيد دعائم مسلسل الإصلاحات المؤسساتية، في تناغم مع القانون الدولي الإنساني. كما عُهِد للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، بوصفه مؤسسة وطنية مستقلة تشتغل طبقًا لمبادئ باريس، بمتابعة تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة باعتبار ذلك خطوة هامة على درب تعزيز المكتسبات الحقوقية وضمان استدامتها.

من المؤكد أن المغرب ربح رهان المصالحة المؤسساتية الشاملة في أبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والمجالية، رغم ما عرفته من صعوبات في حالات ظلت عالقة، كقضية المعارض اليساري المهدي بن بركة وغيرها، وذلك من خلال ربطها بالتوجه نحو المستقبل ووضع أسس متينة تشكل جوهر كل تحول ديمقراطي.

وهكذا تشكل هذه التجربة المغربية التي حظيت بإشادة واسعة من قبل المجتمع الحقوقي الدولي مجالًا للاستفادة منها لدول كليبيا وسورية ما بعد حقبتي معمر القذافي وبشار الأسد، على اعتبار أن الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية يتطلب مصالحة حقيقية شاملة.

مصطفى عنترة
مصطفى عنترة
صحافي وحاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدستوري، وكاتب مهتم بقضايا التعدد اللغوي والتنوع الثقافي بالمغرب وشمال أفريقيا، وباحث في المسألة الأمازيغية. نشرت له مجموعة من الدراسات والأبحاث، منها "المسألة الأمازيغية بالمغرب.. من المأسسة إلى الدسترة"، و"المسألة الأمازيغية بالمغرب.. قراءة في مسار التحول من الثقافي إلى السياسي"، و"الأمازيغية وأسئلة المغرب الراهن". يشغل حاليا إطارا بمجلس المستشارين المغربي وأستاذا زائرا بالمعهد العالي للصحافة والإعلام بالدار البيضاء.