سقوط الأسد وسؤال استقرار الدولة والتنمية
استفاق العالم على خبر سقوط نظام بشّار الأسد بعد أن دخلت المعارضة السورية المسلّحة دمشق بكيفيّة غير متوقّعة. إذ كان الجميع تقريبًا يراهن على حربٍ ضروس ستقع على تخوم العاصمة دمشق، لكن الواقع حكم بتهاوي فلول نظام الأسد، ما يطرح العديد من الأسئلة عما يجري في الساحة الجغرافية السورية: هل كان النظام بهذا الضعف الذي ظهر به أمام قوّات المعارضة؟ أم أنّ إيديولوجية النظام التي حكم بها منذ عقود الشأن السوري، تجاوزها القاموس السياسي السائد اليوم في المنطقة وغيرها؟
كذلك يمكن أن نتساءل بشأن حدوث تفاهمات سياسية من طريق حوار غير مباشر بين حاشية بشّار وقيادة المعارضة، انتهت بتأمين خروج آمن لبشار وعائلته خارج الأراضي السورية مع الإبقاء على أركان الدولة في هذه الفترة الانتقالية إلى حين دسترة المؤسّسات في وثيقةٍ دستورية جديدة؟
كلّ هذه الأسئلة وغيرها لها وجاهتها وفرضياتها التي تسوّغ طرحها من ناحية التحليل السياسي.
عانى الشعب السوري الويلات على مستوى التدخل الأجنبي في شؤون الدولة منذ ظهور موجة الربيع العربي، فقد كانت أطراف دولية عدّة تلعب على وتر الفتنة، منها دول عربية كانت تشارك النظام إيديولوجية "القومية"، لكن دافع المصلحة جعل إيديولوجية القومية تختفي لتحلّ محلها ما يمكن أن نسميه أنانية الكرسي لدى حكام المنطقة. فالكل كان يتوجّس من امتداد الربيع إلى جغرافيته السياسية، وعمل بالتالي على التدخل في إبقاء الصراع على الأراضي السورية، ما أطال أمد الصراع.
هناك يد خفية سهّلت وصول المعارضة إلى دمشق ونهاية فترة حكم بشار الأسد
لم يكن التدخل الأجنبي محصورًا فقط في الشق السياسي المُحتكم إلى المصلحة الوطنية، بل كان هذا التدخل يشمل كذلك المدّ الشيعي في المنطقة السورية، وحكّام المنطقة الذين شجّعوا المعارضة السورية في السابق، لمواجهة انخراط النظام في سياسة إيران التوسّعية في العواصم العربية (لبنان، دمشق، وصنعاء،...). وقد كانت أذرع إيران في المنطقة حاضرة في الصراع السوري، وهناك أدلة متداولة على انخراطها في ارتكاب أبشع الجرائم بحقِّ الشعب السوري بهدف إسكات صوت المعارضة وإعادة قوّة السلطة إلى النظام، وربّما تحقّق ذلك جزئيًا في السابق، لكن على حساب تهجير السوريين إلى الأراضي التركية وتخوم حدودها، وعلى حساب تفكّك الدولة السورية.
هناك أيضًا التدخل الروسي الذي انخرط في الصراع السوري في إطار تدافع القوى الدولية، وبخاصة لمواجهة أميركا التي توسّعت في الشرق الأوسط منذ سقوط جدار برلين وحرب الخليج الأولى. وبالتالي، كانت روسيا تدعم نظام بشار الأسد حفاظًا على مصالحها في المنطقة، وكي يكون لها دور في رسم خريطة التحالفات الدولية، وورقة ضغط في الحوار الجيوسياسي بين القوى الدولية.
دفعت الحرب بين إسرائيل ولبنان القوى الدولية (وبخاصة أميركا) إلى التفكير باتجاه عزل الساحة السورية عن لبنان لقطع إسناد حزب الله بالسلاح الإيراني، وقد حدثت في أثناء المواجهة بين حزب الله ولبنان غارات في العمق السوري، وبعد عقد اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، تحرّكت مباشرة المعارضة السورية نحو مناطق النظام في سورية، وكانت المدن تسقط الواحدة تلو الأخرى، مع تراجع قوّة النظام وانسحاب قوّاته بشكل سريع ومستغرب.
دفعت الحرب بين إسرائيل ولبنان القوى الدولية (وبخاصة أميركا) للتفكير باتجاه عزل الساحة السورية عن لبنان
إذن هناك يد خفية سهّلت وصول المعارضة إلى دمشق ونهاية فترة حكم بشار الأسد. قد تكون المحادثات التي وقعت في أستانة أخيرًا قد خلصت إلى تأمين خروج آمن للأسد، مع إبقاء بعض من أعضاء حكومته في مسؤولياتهم في الفترة الانتقالية إلى حين صياغة دستور جديد مُتوافق بشأنه. والسؤال الذي يُطرح الآن يتعلّق بمدى قدرة المعارضة على المحافظة على استقرار الدولة واستمراريتها، وعلى مدى استطاعتها تقديم برنامج تصالحي تنموي شامل لكلِّ السوريين.
ما يُلاحظ في أحداث سورية الأخيرة (طبعاً حسب ما ينقل إلى العموم) أنّها أقلّ دمارًا وسفكًا للدماء، وبخاصة في صفوف المدنيين، وهذا يعطي انطباعًا أوليًا على رشد الرؤية السياسية لدى قيادة المعارضة، وأنّها خضعت لتكوين سياسي يؤهلها للحكم في هذه الفترة الانتقالية، وهي الأصعب بطبيعة الحال. فكم من تجربةٍ مماثلة سقط فيها النظام، لكنها لم تذق طعم الاستقرار السياسي (تونس، ليبيا،...) بعد. لهذا نخشى أن يتكرّر النموذج الليبي في سورية.
إنّ المعارضة السورية اليوم مطالبة بانتقاء قاموس لغوي خطابي وحدوي؛ بحيث يتوجّه خطابها لكلِّ السوريين بغضِّ النظر عن الاعتقاد والتمذهب والتحزب، كذلك فإنّها مطالبة بالانفتاح على عالمها الخارجي، وبخاصة مع الدائرة السُّنية لإعادة سورية إلى طابعها الجغرافي التاريخي، وأن تتحاور مع إقليمها العربي وتمدّ معه جسور المصالحة والانخراط في مسلسل تنموي بعيد المدى.