سفَر أم سقَر؟!
اقتربتِ العطلة الصيفية، وكل المُدرِّسين المُغتربين يتجهّزون للسفر جواً أو براً، وباعتبار أنّ صديقي صار عنده سيارة، قرر السفر بها. اتفق مع زملائه ليرافقهم في الطريق والرحلة، وأداء العُمرة كما يرغبون، أثناء المرور في السعودية.
قام صديقي بتجهيز السيارة وصيانتها، وتغيير الدواليب، والزيت، وضبط المكابح، وشراء عبوة زيت للسيارة احتياطاً، لأن في بلده لا يوجد هذا النوع الجيد.
يقول صديقي: في اليوم المتفق عليه انطلقنا مع عائلاتنا، مُدجّجين بترامس الشاي، والقهوة والموالح، والأطعمة التي يُحبّها الأطفال. كان الاعتماد على زملائي في معرفة الطريق، لأنّ لديهم خبرة سابقة في ذلك.
في أقلَّ من عشر ساعات وصلنا إلى منفذ الغويفات الحدودي بين الإمارات والسعودية، بعدما كدنا نضيع في صحراء أبوظبي، لولا أننا استعنّا بالخال "غوغل إيرث" وخرائطه، لظللْنا هائمين على وجوهنا في صحراء المنطقة الغربية على الحدود، وكان هذا نذير شؤم لي.
قطعنا مسافات طويلة حتى الوصول إلى مكة لأداء العمرة. بلغ بنا التعب أشدّه، وباعتبار أن أحد الزملاء جاء للعمرة والحج قبل ذلك، صار شيخنا ودليلنا المعتمد. بعدما أنهينا الطواف حول الكعبة، انتقلنا إلى السعي بين الصفا والمروة.
قال زميلنا وشيخنا: السعي سبعة أشواط، كل ذهاب وإياب يُحسب شوطاً.
قلت له: أخشى أن تكون مخطئاً، لأننا متعبون، والمسافة ليست قصيرة، ونحن معنا عائلات وأولاد صغار.
- ألا يوجد (ديسكونت) تخفيض؟
أجاب: لا خطأ إن شاء الله.
وأردف: ههه. أتحسب نفسك في (مول) وفيه تخفيض!
أجبته: يسّرْ ولا تعسّرْ يا شيخنا المعتمد.
- يمكن أن يكون السعي ذهاباً يُعتبر شوطاً، والإياب يُعتبر شوطاً آخرَ.
لكنه أكّد ما قاله سابقاً، فهو جاء إلى العمرة قبل ذلك وقرأ عن شعائرها.
تابع صديقي: امتثلنا لما قاله زميلنا (الشيخ الضرورة)، وحلّ بنا تعب شديد ليس بسبب ما اجتزناه من السعي، بل أيضاً لما قطعنا من مسافات.
غادرنا باتجاه المدينة المنورة، لكنْ في الطريق لا أدري هل أنا سهوت عنهم، أم هم سهَوا عني، وأضعنا بعضنا بعضا؟ وصلت إلى المدينة ولم أرَهم، وبحثت، وانتظرت ساعات، لعلي ألتقي بهم، فهم الدليل في السفر والأنيس، ولكن دون فائدة.
أيقنت أنهم في الطريق، ولا بد من اللحاق بهم، فسألت عن الطريق المؤدي إلى مدينة تبوك وسلكته، وعيناي تسمّرتا في جانبي الطريق لعلي أحظى برؤيتهم.
بعد اجتياز مسافة طويلة، لمحت سيارة زميلي عند إحدى الاستراحات، فيممتُ نحوهم فرِحاً..
(أنا أقول وين رحتم، وهم يقولون أنت أنت وين رحت)
يتابع صديقي: كأن الروح ردّتْ لي بعد لقائي بهم.
بعد أخذ بعض الراحة انطلقنا إلى تبوك لندخل الأراضي الأردنية، واتجهنا بقيادة الزميل إلى المعبر القديم، بدلاً من نصيب، المعبر النظامي، وهنا ازددت تشاؤماً وتطيّراً من هذه السفرة.
كانت إصابة الرأس هي المخيفة، لأني شعرت برغبة في التقيؤ، ما دفع المُتحلّقين حولي إلى القول بصوت هامس: واضح عنده نزيف في الرأس لا فائدة منه يا حرام
دخلنا درعا واتجهنا إلى الشام التي استرحنا فيها قليلاً، وتناولنا وجبة طعام شامي. غادرنا باتجاه حمص وحماه، وفي ريف حماة وصل زملائي إلى قراهم، وألحّوا عليّ للقدوم معهم إلى البيت لأنام عندهم الليلة ومن ثَم أتجه صباحاً نحو مدينتي، ولكنني رفضت لكي لا أثقل عليهم.
وهكذا أصبحت وحيداً، وتابعت سفري، وبسبب الإنهاك والتعب حاولت أن أجد فندقاً في السلمية لأنام حتى الصباح، فما وجدت.
استرحتُ بعض الوقت وانطلقت باتجاه مدينتي، بعدما سألتُ أحد سائقي (البولمانات) الحافلات عن الطريق، وكان قد انتصف الليل، فقال: أنا لدي رحلة بعد قليل يمكن أن تستأنسوا بي، وتسيروا خلفي، وهذا ما تم.
قطعنا مسافة ليست طويلة على طريق السلمية الرقة، الذي اشتُهرَ بحوادثه المميتة، وبالتشليح من بعض العصابات، وخاصةً في الليل، وربما بسبب ذلك كنت أقود مسرعاً، مع استخدام مُثبّت السرعة.
الطريق زراعي ضيق ومخيف، وبصعوبة يتسع لسيارتين، وكل سنة يتسبب بموت العشرات.
ظللْتُ أسير خلف (البولمان) حتى ابتلعه الظلام، وما عدتُ أراه.
ما إن وصلت إلى السعن حتى استبدّ بي النوم، والنوم سلطان كما يُقال.
كأني غفوت بضع ثوانٍ، كانت كفيلة بارتكاب حادث أليم، ويبدو أن السيارة أثناء منعطف حاد لم تنعطف، بل تابعت سيرها نحو الأمام، لتنقلب وتتحطم.
قلت لصديقي: إن شاء الله كانت سليمة ولم يتأذَ أحد.
قال: والسيارة تنقلب وترتطم بالأرض الصحراوية أدركت أنني ميت لا محالة، فنطقت بالشهادة.
لم أعرف ما حدث، بعد ذلك صحوت وأنا غير واعٍ تماماً على همهمة وكلام الناس فوقنا يحاولون مساعدتنا، ويأسفون لما حل بنا.
كل مَن رأى السيارة يستبعد أن يكون أحد من ركابها قد نجا.
الحمد لله نجونا بأعجوبة، ببعض الكسور في الأضلاع وفي العمود الفِقري (الفقرة القطنية الثانية والرابعة)، وجروح في مناطقَ مختلفة من الجسم، بالإضافة إلى تلقي ضربة على الرأس.
كانت إصابة الرأس هي المخيفة، لأني شعرت برغبة في التقيؤ، ما دفع المُتحلّقين حولي إلى القول بصوت هامس: واضح عنده نزيف في الرأس لا فائدة منه يا حرام.
أما العائلة والأولاد فلم يصبهم شيء، على الرغم من أن اثنين منهما قُذِفا خارج السيارة أثناء انقلابها، ووجدهما الناس على الأرض، أما البنت الصغيرة فقد كانت محشورة بين المقعدين الأمامي والخلفي بدون إصابة.
تابع صديقي: يبدو أن بالونَي السيارة (الإيرباك) خفّفا من الإصابات، ولطف الله قبل كل شيء.
قلت لصديقي: ولا تنسَ الأشواط المُضاعفة بالسعي بين الصفا والمروة.
وسألتُه: كيف غفوت، وأنت تقود السيارة؟
قال: مع أنني لا أنام بسهولة عادةً، وأحياناً كثيرة يُصيبني الأرق، وأبقى مستيقظاً حتى الصباح، وعلى الرغم من أنني شربت براميل من الشاي والقهوة من الترامس التي جلبناها معنا، وصرت كما (توم) في فيلم الكرتون الشهير عندما يحتسي الشاي ليبقى صاحياً ويُلصق جفنيه بلاصق لكي لا ينام وتبقى عيناه مفتوحتين وهو ينتظر خروج (جيري) اللعين لينقضّ عليه، إلا أنه لم يستطع ونام مثلي.
قلت لصديقي وماذا حدث بعد ذلك؟
قال: طُلبت لنا سيارة إسعاف من مدينة الطبقة باعتبارها الأقرب، وأخذونا إلى المشفى لنقيم بضعة أيام، خشية أن يكون هناك نزيف داخلي، ولبست حزاماً فيه صفائح من الحديد بضعة أشهر لتقويم العمود الفقري، مع تناول الأدوية، حتى أنني ذهبت إلى أحد العطارين، فنصحني بنوع من الأعشاب اسمه (بعبع التيس).
قال العطار إنه يرمّم العظام، ولا سيما العمود الفقري، فداومت على أخذه باستمرار، على الرغم من طعمه الشديد المرارة، فكنت أشربه مع الحليب لأخفّف مرارته.
سألت صديقي: ماذا حل بالسيارة والأغراض التي فيها؟
قال: الأغراض الموجودة سُرقت.
أما السيارة فتضرّرت كثيراً، وكانت بأربعة دواليب ودولاب احتياط (استبنة)، فعادت بدولاب (الاستبنة) الاحتياط.
أخذتُ السيارة، وحمّلتها بعد أسابيع من الحادث على شاحنة (إيسوزو)، وذهبتُ إلى المنطقة الصناعية في الشقَيّف في حلب.
كل مَن رآها هناك قال إن تصليحها مُكلف ولا يوجد قطع تبديل لها، وقال بعضهم خذْها على حالتها الراهنة وأصلحْها في مكان شرائها.
وقال آخرون: قم بتشليحها من القطع، واعملْ ضبطاً عند الشرطة بأنها احترقت، وأضافوا هذا الأمر يعمد إليه كثير من التجار، حيث يأتون بسيارات خليجية، وبالاتفاق مع الشرطة يقولون إنها احترقت ويبيعون قطعها، ويدبّجون ضبطاً في ذلك.
وأخافني بعضهم بقولهم مثل ما أدخلتَ السيارة تُخرّجها، ومن المعبر نفسه، وحذروني من أن في دولتنا العتيدة قوانينَ اقتصادية إذا لم أُخرّجِ السيارة من اسمي على جواز السفر، وفيها محكمة اقتصادية، وغرامة بملايين الليرات.
عزمتُ على عدم إصلاحها والتوجه نحو المعبر وأنا في حالتي الصحية تلك، فقد كنت أتحرّك كالرجل الآلي بسبب الإصابة والحزام.
وهناك تمكنت من وضع السيارة في ساحة كبيرة مخصصة للسيارات الأجنبية في نصيب، وطبعاً بعد التفاوض مع عناصر المعبر والاتفاق حول أتعابهم، مع العلم أن لديهم ورشات كاملة هناك لتشليح السيارات المركونة وبيع القطع.
ودون أن تسألني حول كيفية عودتي إلى مكان عملي في تلك الدولة الخليجية،
أقول: في ذلك العام المشؤوم كانت حرب تموز/ يوليو في لبنان، وارتفعت أسعار حجوزات الطيران كثيراً، وبالكاد استطعت أن أحجز لي ولعائلتي، ودفعت مبلغاً مضاعفاً ليُضاف إلى قائمة الخسارة في هذه السَّفْرة.
قلت لصديقي: حمداً لله على السلامة، المهم أنكم بخير وصحة، والمال يتعوّض.