سردية الموت في مواجهة الحرب
عندما تنشغل النساء والطفلات برواية سردية الموت المقيمة بقسوة لا ينتصرن للموت، ولا يحاولن حينها تعميم الموت كقضية حتمية لا مفر منها، أو أنه لا إمكانية لردها أو وقفها، بل ينتصرن حينها وبشدة لقوة الحياة وللحق الإنساني في الحياة.
تتحمل النساء وزر الأعباء الناجمة عن الحرب، ويحملن أيضاً عبء التخلص منها والسعي لذمها ورفضها والمطالبة بإيقافها، هنّ كارهات للحرب والمعارك وروائح البارود، كارهات للغياب وللموت، للنزوح عن البيوت وفقد الأحبة. ليس لأنهن حمامات سلام كما تفضل الغالبية وصفهن، بل لأنهن يعينَ تماماً أن لا مصلحة للإنسانية بخوض أي حرب، ولا مصلحة للنساء بعيش الحروب مهما سعى صناعها لتغليفها بالمقدسات وتزُيينها بالانتصارات، وهي في العمق انتصارات هزلية ووهمية.
أما عن الحروب اليومية الصغيرة التي تعيشها النساء في مواجهة حياة قاسية وغير عادلة، فتبدو وكأنها تدريب طويل الأزل على الرفض، على الاعتراض، على صياغة خطاب حقوق بديل، وإن بدا خطاباً عفوياً وانفعالياً وخالياً من مكامن الضغط والتأثير. هنا لا تكفي اللغة أبدا، بل تبدو عاجزة تماماً أمام سيل هادر من تفاصيل لغة موازية تعيش وكأنها خالدة إلى الأبد، تتجدد بالقوة الرافضة للحقوق، وتتصلب برفض السماع لأي اعتراض أو شكوى أو مطالب لجعل الحياة أقل وطأة، لغة تنغلق على نفسها أكثر لكنها تتوحش أكثر، فكل ما بوسع الانغلاق فعله هو تكريس بطش اللغة وتكريس الأحكام القطعية المستعملة ككلمات لكنها في الواقع تكرس منظومة متكاملة من الحيف والتمييز والاستبداد، والأشد أسفاً وظلماً، هو ادّعاء أنّ النساء يدرن هذه الحروب برغبة فائقة من قبلهن، وبأنهنّ يناصبن الجميع العداء.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، من أين تأتي النساء بكل هذه العبارات؟ من أي خزّان تستعير النساء مفرداتهن اللغوية؟ والسؤال الأهم لماذا تتهم النساء حين تصر على استعمال لغة الرفض وحتى لغة المواربة! بالتلاعب باللغة؟ فقط لأنهن يبتغين حرف مسار الرؤية نحو الظلم الدفين والمعلن والمسكوت عنه.
لطالما وصمت النساء بوصمة التلاعب منذ اللحظة الأولى التي أعلنّ فيها عبارة أنا أحب هكذا بمواجهة يجب هكذا! هي المعركة الأولى ما بين تفاصيل حيوات النساء كواجب متسلسل، مرسوم ببطش عارم، ومنظم بتعاضد مجتمعي ظالم ومؤطر للنساء في زوايا خانقة وعصية على التحرك بين حدودها الحادة والصارمة، وما بين حيوات ترسمها الرغبة بالعيش المتساوي، أو بالتغيير، أو على الأقل بكسر حواجز اللغة، اللغة لا غير.
يعزى إلى النساء أيضاً تلاعبهن بالاستعارات، كأن يقلن: "اتركوا الرجال من أجل أطفالهم!"، إذْ لا يتجرأن على القول اتركوا الرجال من أجلنا، لنعيش معا خارج دوائر الحرب! لا تقول النساء إنهن يعشقن رجالهن تفادياً لاتهامات كبيرة ستطاولهن بقسوة، لكنهن يرددن: إنهم رجالنا بالحلال! يتم زج عبارة الحلال هنا للتلاعب بطريقة إظهار أن النساء لا يحببن الحياة دون رجالهن، وأنه حتى الجنة كمكان مقدس وذي مكانة عليا ومبجلة، لا تستحق رجالهن أكثر منهن، وأن الموت في سبيل الآخر أو أي قيمة مزينة بالقداسة هو هدر لحيوات الجميع.
يبدو جلياً أنّ الحروب تدار بالوكالة عن قتلاها وضحاياها، وصنّاع الحروب يتوسعون في استنزاف الحياة وكأنهم أوصياء على أصحابها، تخوض النساء هنا حرباً ضروساً! لكن بالأصالة عن أنفسهن وعن أبنائهن وبناتهن وعن رجالهن أيضاً، يخضن حرباً بالكلمات وبالدموع وبكافة الطرق التعبيرية الإنسانية الهشة والقوية، المباشرة والمضمرة، ليعلنّ أنهن ضد الحرب، ضد الموت واستباحة البشر والحجر، والحاضر والمستقبل، واستنزاف حياة أصحاب الحياة الأَولى بها من القتلة أو المبشرين بالقتل والمزينين له على قاعدة أنه واجب مقدس ترخص كل الحيوات من أجله.