زواج على حساب ياسوناري كاواباتا
كنت عائدة من العمل أفكر: ليته يتصل قبل بلوغي المنزل، رغم أنني لا أهتم كثيراً، فحين أصل سأرى نظرته الجميلة كأنه يرى لغزاً مثيراً للاهتمام، وابتسامته المتسائلة كما لو أنه يحتاج المزيد من الوقت ليفهم اللغز.
أستطيع أن أرى المنزل قبل برهة من توقف الباص، فأشعر بأنني محمية بموطني. دخلت المنزل جرياً ككل مرة، وسألته شبه صارخة متجاهلة قدرتي على التفهم ومصطنعة هيئة غاضبة: ألا يمكنك أن تكون مهتماً وتطمئن إن كنت حية أو مت قبل أن أصل إلى المنزل في باص السادسة؟
كان جالساً على الأرض التي تغطيها سجادة مزخرفة بالبني والأسود، بين أكوام أوراق وكتب تحاصره، ينقل اقتباساً إلى دفتره. رفع رأسه فاستطعت أن أرى ابتسامة عينيه الدائمة، وأجابني: لكن اتصالي لن يمنع موتك، بل سيعجل حزني عليك، وأفضّل الاشتياق لك أكثر من الشعور بثقب مكان القلب.
تخلّيت عن هيئتي الغاضبة وتنهدت باحثة عن كرسي، وحين نطقت خرج صوتي متعباً وساكناً كما لو أني أحاول أن أهمس: أنت محق، هذا لا يعني شيئاً، أنا فقط متعبة. مررت بيوم مريع!
- أنت بالفعل كذلك.
- أوه! أنا بالفعل كذلك.
مضت برهة وأنا أتأمله: شخص ظهرت في حياته بشكل عادي بسبب رائحة الثورة التي فاحت مني، المضحك أنها لم تكن ثورة حقاً، بل مجرد شيء بسيط يفكر به كل شخص يحاول العيش بسلام. فحين انتقلت من قرية شبه خالية تقع في الجنوب مهاجرة وهاجرة كل شيء عدا ذكرى أبي ورسائل والدتي. قابلته بينما أبحث عن منزل صغير بسيط وإيجاره زهيد وجميل فوق ذلك. كنت أرفض كل البيوت التي يعرضها علي السمسار بحجج تصيبه بالسخط، لذلك صرخ في وجهي وسط الشارع فجأة قبل أن يتركني: لا يمكنني أن أجد لك منزلاً صغيراً وبسيطاً وجميلاً في حي هادئ تحيط به حديقة بإيجار زهيد!
- لكنني لم أشترط وجود حديقة.
في أمسية بعيدة أشار إلى انذهاله بنكهات الجنوب، سألته وأنا أتصفح كتاباً عرضه علي: هل تذوقت طعام الجنوب من قبل؟
اكتشفت لاحقاً أنني أهملت الكثير من الخيارات المناسبة، غير أنني دون أن أعي كنت أبحث عن منزلنا الذي تركته في بلدتي. نسيت أمر العمل إلى أن نفدت أموالي فغادرت غرفة الفندق الضيقة وتركت متاعي أمانة لدى البواب ريثما أجد عملاً، وبحظ يسعدني امتلاكه وجدت قصاصة ورق صغيرة معلقة على سارية تقول: "أحتاج شخصاً يساعدني في ترتيب الكتب حسب موضوعاتها وكتابة فهرس لها، كي لا أجن وأنا أبحث عن (بيت الجميلات النائمات) لياسوناري كاواباتا مرة أخرى!".
وهكذا ذهبت لأجده جالساً بين أربعة جدران مطلية بالكتب عدا النافذة والباب. كنت أقضي نهاري هناك وأغادر عند الساعة العاشرة مساء، أمضيت الليلتين الأولى والثانية أتجمد برداً بجانب حارس الباب الذي قدم لي شاياً لأشعر بالدفء.
سألني صاحب الكتب في اليوم الثالث إن كان منزلي قريباً:
- قريب جداً.
- أين؟
- قرب فندق "الرحيل".
- لكنه وسط منطقة فنادق.
- عليك أن تستنتج إذن أنني أسكن في فندق.
- يا إلهي! أنت جنوبية حقاً!
- أجل، أنا كذلك. شعرت بفخر غريب وأنا أقول ذلك ضاحكة.
ثم خضنا حديثاً طويلاً عن كل شيء يتعلق بالجنوب وببلدتي وبهربي الذي ليس كاملاً، ثم انتهى بحصولي على نصف أجرتي قبل موعدها كي أستطيع الحصول على خدمة جيدة في فندقي. تطلب إنجاز المهمة أسبوعاً، وحين سلمني بقية أجرتي عرض عليّ القدوم لاستعارة الكتب التي أريد قراءتها. وأضاف مبتسماً: خصوصًا تلك التي أبديت ذهولاً وأنت تتصفحينها.
عشت بعدها حوالي شهر بنصف أجرتي دون التفكير في ادخار شيء للأيام الصعبة التي كنت أعرف أنها قادمة، وهكذا استمررت في البحث عن عمل بكسل واللقاء بصاحب الكتب الذي صار صديقي.
وفي أمسية بعيدة أشار إلى انذهاله بنكهات الجنوب، سألته وأنا أتصفح كتاباً عرضه عليّ: هل تذوقت طعام الجنوب من قبل؟
- لا، بل قرأت عنه فقط في رواية ما عدت أستطيع تذكر عنوانها تزوج البطل فيها امرأة جنوبية بسبب طبخها.
أعددت له حساءنا الدافئ، وكما لو أن السماء تناغمت معنا أمطرت بعد يوم طويل غائم. حين انتهى العشاء سألته:
- ما رأيك؟
- تزوجيني!
انفجرت ضاحكة لكنه لم يفعل، فتوقفت:
- هل أنت جاد؟
- أجل. وبذل جهداً ليبتسم.
- هل هذا بسبب الحساء؟
انفجر ضاحكاً لكنه توقف حين لم أضحك:
- هل أنت جادة؟
- أجل. ولم أستطع أن أبتسم.
- لا! ليس بسبب الحساء!
- إن لم يكن الأمر كذلك فأنا موافقة.
أيقظني من سرحاني بقوله:
- ما الأمر؟
- لا شيء، صاحبة المنزل صرخت في وجهي اليوم.
- ولمَ فعلت ذلك؟
- لأنني أترك العناكب تهرب ولا أقتلها.
- ولمَ تتركينها تهرب؟
- لأنها جميلة! لها سيقان رشيقة! وحين تتحرك أو تهرب تبدو سيقانها لامعة جداً كخيطين ذهبيين ملتفين بعضهما ببعض.
- وهل أخبرت صاحبة المنزل بهذا؟
- قطعاً لا! ـ قلتها كالخائف من مجرد التفكير في هذا الاحتمال ـ لا يمكنني أن أخسر عملا آخر!
- هل تتذكرين اليوم الذي أخبرت فيه بائع السمك بأنك تحبين تنظيف السمك لأن الأسماك تحدثك وترقص في الحوض؟
- أتذكر أنه احتار بين أن يشفق عليّ أو يعتبر الأمر محاولة مبتدعة للتخلص من عرضه تنظيف السمك بدلا عني.
- لحسن الحظ أنه صموت، وإلا صار الناس يعتبرونك مجنونة. ـ وأضاف بنبرة مداعبةـ لا ينقصهم سوى الدافع، فهم يرون أمارات الجنون عليك أصلاً.
- أي أمارات؟ قلتها وأنا أختنق بضحكتي وأحاول التخمين.
- اعتذارك من الجدار كلما اصطدمت به!
- لكن هذا أمر لا يعرفه أحد غيرك!
- لا أظن، أخبرني جارنا بأنه سمعك تقولين للسياج "أعتذر أيها السياج الجميل، لكني أعتقد حقاً أننا لو صبغناك بالوردي الهادئ ستبدو أجمل".
- لكن هذا لا يعتبر جنوناً! بل نظرة جمالية!
- أجل، لكن للجار رأياً آخر، فقد جعلني أنتظر ليحضر لي بطاقة دعائية لطبيب نفسي يقصده صديق له، قال بأنه كان يحدث الأشياء إلى أن حاول الانتحار لأن الثلاجة ترفض الحديث إليه.
- إنه يبالغ! ثم إنني.. هذا هراء!
- لا تغضبي عزيزتي.
- بماذا أجبته؟ سألته وأنا أشعر بوجهي ساخناً ومتأكدة من أنه صار أحمر ككل مرة أغضب فيها.
- شكرته، ورميت الدعاية حين دخلت المنزل.
- هذا جيد. قلت منهية الحديث، لكنه أضاف بنبرة خبيثة:
- لكن احذري، فقد ينتهي بك المطاف هاربة من أطفال يرمونك بالحجارة.
كنت أتحدث وأراقبه يقلب الصفحات ويكتب، ويرد علي، أنفجر ضاحكة وأراه يبتسم، وتفلت منه ضحكات متفرقة. كانت ضحكتانا تختلطان وتمتزجان فأستطيع سماع رنة جرس بين كل ذلك. شعرت بأنني هانئة أخيراً، فحملت غطاء وقفزت إليه متفادية أن أطأ طرف أي ورقة، لففتنا بالغطاء وقلت: أيقظني حين تنتهي.