زعماء الحروبِ المقدّسة
عبد الحفيظ العمري
إن القادة الذين يقولون إنّ العناية الإلهية هي مَنْ تبعثهم، هم أنفسهم الذين يخوضون حروباً يخترعونها لتدعيمِ سلطتهم المطلقة التي تمسك بكلِّ مفاصلِ الحياة، من الإدارة حتى طريقة التفكير، وهي الحروب التي لا تنتهي إلا لتبدأ، وأنّى لها أن تنتهي، وهي في نظرهم حروبٌ مقدّسة! وثالثة الأثافي، زَعمهم أنّهم يخوضون تلك الحروب من أجل شعبهم العزيز، الذي جاءوا لإنقاذه من براثنِ التخلف والجهل... إلخ. لكنهم في نهاية المطاف، يرحلون مخلّفين وراءهم، في كلّ مكانٍ، الخراب والدمار.
يحدثنا كتاب "قصة الحضارة" لويل وأريل ديورانت عن إمبراطور الصين شي هونج دي (258 ق.م – 210 ق.م) الذي بنى سور الصين العظيم، وبلغ به الغلو أنّه كان يُذيع بين الناس أنّه إله، "وأعقب موته عهد من الفوضى والاضطراب، كما تعقب الفوضى والاضطراب موت الطغاة جميعهم تقريباً في حقب التاريخ كلها. ذلك أنه ليس في وسع إنسان أياً كان أن يجمع السلطة كلها في يده ويحسن التصرف فيها".
يسرد التاريخ في كلّ زمنٍ نماذجَ من هؤلاء "العظماء" الذين يظهرون مثل حبلِ الكذب، قصيرٍ لكنه لا ينتهي، بل يتواصل بحبالٍ أخرى.
نبدأ مع إمبراطور الصين شي هونج دي سالف الذكر؛ فقد جلس على كرسي الإمارة وهو في الثانية عشرة من عمره، وعندما بلغ الخامسة والعشرين بدأ يفتح البلاد ويضم الدويلات التي كانت الصين منقسمة إليها منذ زمنٍ بعيد؛ حتى خضعت الصين كلّها، لذا لُقّبَ في كتاب "قصة الحضارة" ببسمارك الصين، وتمّ وصفه بالقول "وكان قوى الشكيمة عنيداً لا يحول عن رأيه، ولا يعترف بالألوهية إلا لنفسه، اجتمعت فيه عقائد نيتشه وبسمارك". ومن أعماله الداخلية إقامة حكومة مركزية قوية، جمع كلّ أطرافها في يده، وأقدم على إحراق كلّ كتب المؤرخين "حتى يرفع عبء الماضي عن كاهل الحاضر؛ وحتى يبدأ تاريخ الصين من عهد شي هونج دي".
في نهاية المطاف، يرحل الطغاة دوماً، مخلّفين وراءهم الخراب والدمار
ثم جاء الإسكندر المقدوني، الذي عرض الدكتور مصطفى محمود مغامراته العسكرية في مسرحيته "الإسكندر الأكبر"، تلك المغامرات التي بدأت من اليونان؛ فشملت بلاد الشام ومصر وفارس، ووصلت حتى الهند، وأطرف ما فيها أنّه عندما دخل مصر عام 333 قبل الميلاد، نصّبه كهنتها فرعوناً على مصر، واعتبروه ابناً لآمون (كبير الآلهة المصرية)!
وبموتِ الإسكندر، اندلع لهيب الثورة على سلطان مقدونيا في جميع أنحاء بلاد اليونان، وتقاتلَ كبار ضباط الإسكندر على الحكم طوال أربعين سنة، وتفكّكت الإمبراطورية المقدونية إلى أربع إمبراطوريات صغرى. ثمّ جاء نابليون بونابرت، ليتبخترَ على خريطة أوروبا منذ معركته ضد التحالف النمساوي الروسي عام 1805 ثم تلاحقت المعارك، ولعلّ أشهرها حملته الكبيرة على مصر عام 1798. أمّا حملته على روسيا عام 1812، والتي خلّدها الروائي ليو تولستوي، في رائعته "الحرب والسلام"، فكانت نقطة الانعطاف في حروبه، حيث بدأ الانحدار لتكون هزيمته في معركة واترلو عام 1815 قبل نفيه إلى جزيرة سانت هيلانة، وموته هناك بعد ست سنوات.
ويصعد على مسرح التاريخ الحديث، أدولف هتلر، الذي سار على خطى نابليون في حروبه الأوروبية منذ تسلّمه السلطة عام 1933؛ فالبداية كانت معركة بولندا عام 1939، مدشناً الحرب العالمية الثانية، ومن ثمّ هزيمة فرنسا والعبث بخريطة أوروبا وإرسال جنراله، إرفين روميل، إلى الشمال الأفريقي عام 1942، فساح هذا الأخير فيه حتى معركة العلمين في مصر التي أوقفت تمدّده.
وعلى خطى نابليون تماماً، كانت حملة هتلر على روسيا، المسمّاة حملة بارباروسا عام 1941، هي بداية الانحدار التي قادته إلى الهزيمةِ، فالانتحار عام 1945. وفي نفس الوقت دخلت جيوش الحلفاء إلى برلين، ليتم تقسيمها بينهم.
يقلّب التاريخ أوراقه دائماً، ويدعونا إلى القراءة، لكنّنا نقرأ دائماً بدون بصيرة، لذا يَصدق علينا في نهايةِ المطاف ما قاله الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل، عندما قال: "الدرس الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ، أن لا أحد يتعلم من التاريخ"!