الرسائل المقروءة وغير المقروءة في سينما النظام السوري
حسب عالم الاجتماع أرنولد هوزر، فإنّ الأفلام بجميع أشكالها تؤسّس، من خلال خطابها الواقعي المبسّط، لعلاقة بصرية بين الفرد ومجتمعه، علاقة تمكّن من التواصل مع الجماهير مباشرة، والتحدّث بلغتهم، وتصوير الواقع لهم.
إنّ هذا التأسيس يمكّن بدوره عملية التكييف أو التلاعب بالأحداث الاجتماعية والسياسية والفكرية من خلال وضع خطط التنمية الاجتماعية الهادفة إما للحفاظ على هياكل المجتمع أو تغييرها أو تقويضها.
لهذا السبب، ومثل أيّ نظام شمولي آخر، فإنّ أهمية تطلّع حزب البعث الحاكم للاستثمار في السينما واضحة، حيث يسعى إلى تلميع صورته من خلالها، وتكوين وعي جماعي للمواطنين بما يخدم أهدافه في التأثير على أكبر شريحة من المجتمع، منذ اندلاع الحراك الشعبي في 2011 وحتى الآن.
بسبب عدم وجود إعلام أو سينما مستقلة، وخاصة في سورية، سيطرت الحكومة على الإعلام بشكل عام وصناعة السينما بشكل خاص. إذ استخدمت الحكومة وسائل الإعلام، وخاصة السينما، لتلميع صورتها وإرساء الوعي الجمعي للمواطنين بما يخدم أهدافها في التأثير على الشريحة الأكبر من السكان.
وفي حالة السينما، تختار المؤسسة العامة للسينما السورية المخرج وتحدّد المحتوى المسموح به وتشرف عليه وتفرض الرقابة طوال عملية الإنتاج. وتموّل المؤسسة فقط المخرجين الموالين للنظام، لحملهم على الانصياع لمطالب النظام، ونتيجة لذلك أحكمت قبضتها على الخطاب السينمائي في البلاد من خلال هذه الأساليب.
استخدمت الحكومة وسائل الإعلام، وخاصة السينما، لتلميع صورتها وإرساء الوعي الجمعي للمواطنين بما يخدم أهدافها في التأثير على الشريحة الأكبر من السكان
من خلال تحليل نصوص 12 فيلما أنتجت بين 2011 و2022 من أصل 20 فيلما، استخدمت الأفلام الـ12 تعبيرات سلبية عن المعارضة السورية، مثل: (إرهابيون، مجرمون، عملاء للغرب، قتلة)، وغيرها.. فيما كانت التعبيرات الإيجابية عن المعارضة السورية شبه غائبة. حتى الفيلم الوحيد الذي استخدم تعبيرات إيجابية عن المعارضة، كان على لسان شخصية مهزومة لا تريد قبول الآخر.
من ناحية أخرى، كانت هناك تعبيرات إيجابية عن الحكومة، مثل الأبطال، أصحاب الحق، والتضحية، والإيثار.. وعرضت الأفلام قصصاً مصقولة بأفكار النظام تتحدّث عن بطولة الجيش وترهيب المدنيين من قبل "الإرهابيين".
على سبيل المثال، فيلم "لآخر العمر"، للمخرج باسل الخطيب، تحدّث عن بطولات عسكرية نفذّها جيش النظام، بينما قدّم نجدت أنزور، من خلال فيلمه "رد القضاء"، رواية سينمائية تتطابق مع الرواية الإعلامية للنظام، والتي تتلخص في المؤامرة الكونية والإرهابيين الذين يريدون تخريب البلد باسم الحرية.
حتى إنّ أنزور تجاوز الرواية الإعلامية الرسمية للنظام، وفتح الباب أمام توجيه اتهامات للصحافة الدولية والمنظمات الإنسانية الموجودة داخل سورية، وبرّر منع النظام السوري لهذه الأطراف من الوجود في مناطقه.
لا شك في أنّ السينما هي الصورة التي تشكلت من سيناريو مليء بالعشرات، إن لم يكن المئات، من الرسائل المقروءة وغير المقروءة، التي تخاض فيها الحرب دون إراقة دماء مباشرة.
التنوّع في فلسفة الرسالة أو براغماتية عرضها يؤدي إلى نوع من الانصهار بين النص السينمائي والإيديولوجيا
ومن هنا كان لا بد من تحديد دور الإيديولوجيا في تشكيل المجتمعات وإدارتها، وخلق السيناريو السينمائي. هذا التنوّع في فلسفة الرسالة أو براغماتية عرضها يؤدي إلى نوع من الانصهار بين النص السينمائي والإيديولوجيا. وهذا يجعل من الصعب الفصل بينهما، أو تحديد المكان الذي تكون فيه السينما فناً خالصاً، وأين تكمن الإيديولوجية أو تظهر.
لا يمكن الجمع بين السينما والإيديولوجيا بدون السيناريو، لذلك، ومن خلال الوعي بمساهمة الإيديولوجيا في تحديد مصير البيئات المجتمعية الحالية، من الممكن مراقبة توظيف هذه الإيديولوجية في صناعة الأفلام وكتابة السيناريو السينمائي، خاصة في السيناريوهات السينمائية التي كتبها مؤلفو النظام السوري.
وبالاعتماد على تحليل الأفلام الاثني عشر، نجد أنّ هؤلاء الكتّاب، بصيغهم وتعبيراتهم، يمكن فقط، بشكل مباشر أو غير مباشر، أن يكونوا متوّرطين بطريقة أو بأخرى، لخدمة مشغليهم، حيث هناك اتجاه واضح، عن عمد أو عفوي، لتقديم اقتراحات وعبارات وجمل تمجّد النظام وتحتقر المعارضة، ما يحول الفيلم أو السينما إلى عمل إيديولوجي بحت يخدم حزباً واحداً، ويسعى إلى قولبة المشاهدين لجعلهم جزءاً من هذه الإيديولوجية ومناصرتها.