رحيل القارئ الحقيقي وميلاد الكاتب المزيّف
لحظة رحيل "الرّجل الذي أكلته الكلمات" كما قال عن نفسه، الفرنسي برنار بيفو (1935- 2024) صاحب أهم البرامج التلفزيونية مثل "أبوستروف" و"حساء الثقافة" وغيرهما، هي الخط الأسود الحزين الذي يفصل بين زمنِ القراءةِ المتأنيّة البطيئة، المتأمّلة، التي تقيم في شغفِ المعرفةِ والنقدِ والسؤال وبين زمن اللّاقراءة والأغلفة البرّاقة، وكُتّاب الابتذال المكرّسين لالتقاطِ الصور الناعمة في منصّات إنستغرام وفيسبوك وتيك توك.
يُسدل السِّتار، إذن، على الزّمن الذي كان فيه الكُتّاب الحقيقيون محور الاهتمام في الحياةِ الثقافية. وكان محتوى الكِتاب فيه هو الأهم، حيث نبقي أسئلتنا العالقة وأفكارنا المتولّدة عنه بين حواشيه، على هامشِه الأبيض. ينزل السِّتار على زمنِ القراءةِ الكاشفة لمنظورِ الفكرة والمستلِّذة بالجملة، والمستعذبة بالفقرة، المرتعشة بالحلم. لقد انتهى كلّ هذا الترف الجميل الذي يجعل الحياة وسيعة وممكنة دائمًا في آفاقٍ أخرى، أرحب للمعرفة، ولتجلّي قدراتنا ومواهبنا في فنّ العيش برُقيٍّ وأناقة ما أمكن. لقد انتهى كلّ ذلك، للأسف الشديد. ليرفع السِّتار بالمقابل عن عصر كُتّاب الخفّة، الذين يستثيرون نوازع الغوغاء المتجمهرين حول السطحية والتفاهة. وتتم استضافتهم بدعوةٍ من وزارة الثقافة في معارض الكتب لأنّ النسخ التي ينشرونها تحصل على أعلى سقف من مبيعات الكتب.
لم أندهشْ كثيراً من واقعةِ المعرض الدولي للكتاب بالرباط، وإن كانت صاعقة، حيث حصلت حالات من التدافع والإغماء للحصول على توقيع الكاتب السعودي، أسامة المسلم، الشيء الذي أدى إلى تدخّل الأمن لفضِّ الجمع الهائج المائج وتخليص الكاتب من معجبيه، بالقوّة. لم يكن ليحصل هذا مع الشاعر أدونيس مثلًا، الذي زار المعرض أكثر من مرّة، ولا مع أيّ كاتب أو مفكر عربي مهم. ذلك أنّ الكتّاب والشعراء المهمين لا يقرؤهم أحد، وقد لا يستضيفهم أحد.
تضيع القراءة، وتبقى الصورة التي لها القدرة على تكريسِ هذا الاسم أو ذاك في المشهد الثقافي وفق متتالياتٍ من الصّدف، وأحابيل من الطرق الملتوية
شيء متوقّع، لم أستغربه كثيراً. شيء طبيعيّ ومعقول إلى حدٍّ ما، ذلك أنّ المشهد الثقافي قد تحوّل، ومنذ سنوات، وفي خطٍ مائلٍ إلى هذا الانحدار، نزولًا إلى تلك البهرجة. وليس غريباً أن يتوّج المعرض الدولي للكتاب بالرباط نفسه هذه السنة بذاك الهراء، حيث أصبح الفعل الثقافي الجاد باهتاً، والمسؤولية الثقافية ترتخي قبضتها شيئًا فشيئًا. وليس الحدث الأخير سوى حركة بلهاء لإعلان تلك البلاهة التي أخذت تطبع وجه حياتنا الثقافية.
تساهم أمور كثيرة في جعلِ هذا الانزلاق ممكناً، منها طريقة تسويق الكتب الذي يعتمدها الكُتّاب أنفسهم في صنع هذا المشهد البائس، من خلال دفع القراءة إلى الخلف، وتقديم الصورة أوّلاً. نحن لا نلمّ بمحتوى الكتاب، بمضامينه؛ بل تستحوذ علينا الصورة الناعمة من كاميرا الموبايل بمطلقِ غياب الكلمة، ومطلق حضور الغلاف البرّاق وصاحبه في عرضٍ استجدائيٍّ لاصطياد ذباب المجاملات.
في بُعد "الماركتينغ" هذا، الذي أصبح بمثابة تقديمٍ دارج للكتاب، يتساوى الجميع، الكتّاب الجيّدون وغيرهم. لا سلطة لدينا هنا على المقروء. تضيع القراءة، وتبقى الصورة التي لها القدرة على تكريسِ هذا الاسم أو ذاك في المشهد الثقافي وفق متتالياتٍ من الصّدف، وأحابيل من الطرق الملتوية. لذلك، لم يعدْ غريباً أن يبرز في المشهدِ الثقافي كُتّاب الصورة الذين يسوّقون لكتبهم في وسائل التواصل، مستقطبين المراهقين والشباب، أو أولئك الكُتّاب عديمي الموهبة الذين يجتاحون فقرات المعرض الدولي للكتاب وغيره من الأنشطة الثقافية كلَّ دورةٍ وحين، مستغلّين غياب القارئ الحقيقي الذي له القدرة على التمييز والحكم، ومستفيدين من الفساد الثقافي المنتعش بدائرة الشلليّة.
مع رحيل بيرنار بيفو، رحيل القارئ الحقيقي، وميلاد الكاتب المزيّف، يتشكّل واقع آخر. زمن ثقافي آخر يستجيب لنوازع فارغة من معنى الثقافة التي نعرف، نوازع السُّذج والتافهين، وهو ما نعثرُ عليه في جُملةٍ مُتذمِّرةٍ على مقاسِ حاضرنا الملتبس، للفيلسوف فريدريك نيتشه: "إنّ اعتبار سلوكيات العوام مقياساً، هو أسفل انحطاط قدّمته لنا الحضارة اليوم".