رحلة السوريين إلى أوروبا بين المأساة والطموح (2)
بعد أن يتوجه المهاجرون إلى إسطنبول وشراء ما يلزمهم للرحلة من طعام ولباس، تأتي سيارات تنقلهم إلى مدينة أدرنة التركية القريبة من الحدود اليونانية، وهنا يضعك المهرب بالسيارة بشكل عشوائي، ويتم وضع العشرات بسيارة صغيرة..
تبدأ رحلة المعاناة حتى تصل إلى أدرنة، ولا تنتهي، ثم تتجه سيرا على الأقدام وغالبا يكون معك العشرات، تصل إلى نقطة عسكرية لحرس الحدود التركي "الجندرما"، لكنها تتعامل معك بشكل مختلف جدا عما تتعامل به مع السوريين على الحدود التركية السورية، ثم تواصل المشي حتى تصل إلى شاطئ نهر إيفروس "دلتا" الذي يفصل بين تركيا واليونان.
وصلت لهذا النهر ضمن آخرين وكان الجو صحوا، لكن البرد هو صاحب الكلمة، حيث إن الرياح شمالية شرقية باردة فلا تستطيع النوم من شدة البرد، وأسنانك تصطك وترتعش، كأنك ترقص من البرد، ثم ذهب المهربون الذين يقودون تلك "الكروبات" يراقبون تحركات الكوماندوز اليوناني، لكي يأمنوا الطريق..
وعند اقترب الفجر جاء المهرب "الريبري" صارخا استيقظوا لكي نعبر النهر، هنا اختلط الخوف مع البرد فازدادت القشعريرة، وحركة الارتجاف تصاعدت، ثم يبدأون تقسيم الأشخاص إلى مجموعات صغيرة لكي يحملوها بـ"البلم" القارب، ثم يجدفون بك وأنت خائف من الكوماندوز، لكن خوفك من النهر يفوق في تلك اللحظة خوفك من اليونانيين، وإن كنت صاحب حظ سيئ يكون القارب مثقوبا، فتتسلل المياه داخلة حذاءك في هذا البرد وتبتل حقيبتك، وتتذكر قول المتنبي "أنا الغريق فما خوفي من البلل"، ثم تصل إلى حافة النهر الأخرى من الجانب اليوناني، فتركض مسرعا لكي تجتاز الطريق العسكري اليوناني، فتصل إلى واد على بعد 100 متر من الخط العسكري، تجلس فيه صامتا حابسا أنفاسك، حتى يجمعوا كافة الراكب، ثم ينطلقون بك إلى الجبل وعليك أن تجتاز سكة قطار وأوتوستراد، وهي أخطر منطقة حتى تصل إلى الجبل فتؤمن قليلا، ويبدأ الجري حتى تصل للجبل ثم ينطلق بك المهربون سريعا، آمرينك بالسرعة لكي تصعد الجبل وأنت تلفظ أنفاسك من شدة الصعود، الذي عليك أن تجتازه بسرعة قصوى، عندها تدخل إلى الغابات وتبدأ الرحلة، لكنك لا تعرف أين يختبئ الكوماندوز اليوناني الذي كثيرا ما يقوم بنصب كمائن على الطرق الترابية وسط الغابات..
ثم يخبرك المهرب بأن الليلة القادمة هي ليلة صعود جبل المراوح، وهي أصعب ليلة تمر بك، فعليك صعود أكثر من (30 كلم) من الجبال
تدخل إلى غابات اليونان تحفك المخاطر من كل جانب، وتبدأ الشدة كل يوم أصعب من الذي قبله، تخيم أول ليلة بواد عميق لا يمكن أن توقد فيه نارا، وتنام في أجواء البرد ثم تنطلق صباحا، تمشي يوما كاملا تجتاز به أتوسترادا خطيرا، كثيرا ما يكمن فيه الكوماندوز، وهو الأتوستراد الثالث، وتصل ليلا إلى واد سحيق به نهر توجد به شلالات آخرها نبعة مياه يسميها السوريون النبعة الباردة، ثم يبيتون ليلة في بطن هذا الوادي، ويمكن لهم أن يشعلوا نارا حيث تحيط بهم الجبال من كل جانب فلا يمكن للكوماندوز رؤيتهم، فتجدهم ينامون ويتنابون على مراقبة النار، لكي تبقى مشتعلة، وفي صباح اليوم التالي عليك أن تخرج من هذا الوادي فتصعد جبلا مهلكا، تجد الجميع يلهث تعبا كأن لسانه يمتد أمامه، ويصرخ المهرب بالجميع أن اسرعوا، وهم بطلبون منه أن يمنحهم قسطا من الراحة، لكنه لا يستجيب لتلك النداءات.
وبعد أن تجتاز ذلك الجبل عليك أن تمشي في سهل خطير قريب من الطرقات التي عادة ما يوجد فيها الكوماندوز، وفي هذا اليوم يبدأ الطعام بالنفاد، فيقومون بالتقشف وتناول القليل منه، هنا لن تجد أحدا يعطيك طعاما كما في الأيام الأولى، وتبدأ الأنانية تتجلى وتتعزز النزعة الفردية.
ثم يخبرك المهرب بأن الليلة القادمة هي ليلة صعود جبل المراوح، وهي أصعب ليلة تمر بك، فعليك صعود أكثر من (30 كلم) من الجبال، وأنت كل هذا النهار تنظر إلى تلك الجبال من بعيد وتقول كيف لي أن أجتاز تلك القمم التي تناطح السحاب، فتزداد خوفا وهلعا، وقبل جبال المرواح عليك أن تقطع أتوسترادا يبلغ طوله أكثر من (10 كلم)، هذه أخطر المراحل لأن الدوريات تقوم باستمرار بنصب الكمائن فيه، ويجب أن تقطع تلك المسافة هرولة.
تصل إلى جبل المرواح "لتوليد الطاقة من خلال الرياح"، هنا يتساقط بعض الناس تعبا، ولا يمكن لهم أن يكملوا الطريق فيسلمون أنفسهم للكوماندوز، وعندما تجتاز هذه الجبال تكون قد قطعت مرحلة خطرة ومهمة.
في اليوم التالي أيضا ينفد الطعام من كثير من الناس، وتبدأ المعاناة، إذ يجتمع الجوع والبرد والتعب، ثم تمشي نهارا آخر مجتازا أتوسترادين، ثم تصل إلى قرى يونانية أهلها من أصل تركي، فيذهب اثنان من المهربين يتحدثون اللغة التركية إلى إحدى تلك القرى يجلبون طعاما وشرابا، وهذه القرى أهلها متعاطفون مع المهاجرين، لا سيما مع السوريين الذين يتكلمون معهم التركية فيزداد عطف الأتراك عليهم.
ثم تخيم بغابة قريبة من تلك القرى، لكن لا يمكن لك أن تشعل نارا، ولا أن ترفع صوتك، كونك اقتربت من القرى التي تجوبها الدوريات اليونانية، فتصل باليوم الخامس إلى نقطة التحميل، وهي الهدف، إذ ينتهي ملف المشي على الأقدام، وتأتي السيارات لكي تحمل المهاجرين إلى مدينة "سالونيك" اليونانية وهي المقصد الأساس، وعادة يجب أن تكون نقطة التحميل تتصف بصفتين، الأولى أن تكون قريبة من طريق ما، والثانية أن تحتوي على غابة صغيرة يختبئ بها الركاب..
يتبع...