دراما صحن "الفتوش"
الفتوش طبق لبناني بامتياز. له ما يشبهه في الدول المجاورة، لكن فرادته عندنا تأتي من تنوّع مكوّناته بشكل يعكس غنى الطبيعة اللبنانية، وضرورة حضوره على المائدة الرمضانية، ما جعله يتحوّل في الأزمة الاقتصادية الحالية إلى مقياس لقوتها من حيث التأثير على القدرة الشرائية للمواطن، تماماً كما يفعل مقياس ريختر للزلازل.
هكذا، ومنذ فترة طويلة، وعلى عتبة الشهر الكريم، تبدأ مراكز المعلومات والإحصاء بنشر متغيّرات القدرة الشرائية للبنانيين انطلاقاً من كلفة صحن، أو بالأحرى "جاط" الفتوش لخمسة أشخاص، معدّل العائلة اللبنانية الوسطي.
ومفردة "جاط" المستخدمة في العامية، هي في الحقيقة "ترجمة" صوتية عن الأجنبية، تفيد معنى: القدر، أو الوعاء الكبير، ومنه يسكب في كلّ صحن.
ومع أنّ لبنان مشهور بطبق التبولة، الذي حاولت إسرائيل سرقته ونحل نسبه، إلا أنّ اختيار مراكز الإحصاء لطبق الفتوش بدلاً عنه، ليس عن عبث. ففي حين لا تتجاوز العناصر المكوّنة للتبولة ثمانية، فإنّ مكونات "الفتوش" تكاد تصل إلى العشرين، وأحياناً أكثر: كالبندورة والفليفلة والخيار والخبز والبصل الأخضر والزعتر البري وزيت الزيتون والنعناع والخس والفجل والبقلة والحامض.. إلخ. ولا تقل في أيّ حال عن عشر مكوّنات، وإلا استحال الفتوش إلى مجرّد سلطة "حقيرة" في مفهوم موائدنا الرمضانية التقليدية.
وككل عام، أصدرت إحدى مؤسسات الإحصاء، هي "الدولية للمعلومات"، نشرتها السنوية لكلفة "جاط" الفتوش لخمسة أشخاص، فتبيّن لها أنّ العائلة هذه السنة تحتاج إلى موازنة خاصّة لتأمين هذا الطبق يومياً ضمن المائدة الرمضانية. إذ بلغ معدّل كلفة الطبق بحسب "مؤشّر الفتّوش" الذي أعدّته المؤسّسة 174 ألف ليرة يومياً. وبهذا يحتاج الصائم إلى 5 ملايين ليرة كلفة الطبق لشهرٍ واحد.
وقد ارتفعت قيمة هذا الطبق بنسبة 244.8% عن العام الفائت، مع الإشارة إلى أنّ هذه الأرقام ظلّت أدنى نسبياً من ارتفاع سعر صرف الدولار، بما أنّ معظم مكوّنات الفتّوش من البقول المنتجة محلياً. أمّا أسعار الأطباق الأخرى، كتلك التي تحوي اللحوم أو الدجاج، فقد تضخّمَت بنسبةٍ أعلى بما لا يُقاس بالنسبة لعائلات تعيش تحت خط الفقر المقدّر بدولارين ونصف في اليوم، أي ما يقارب 250 ألف ليرة.
ربما يصوم الفقراء كنوع من المساواة بينهم وبين الآخرين حين لا يتناولون إلا وجبة واحدة بحجة الشهر الفضيل
كان هذا قبل بدء شهر الصوم بأيام. لكن، عشية يوم رمضان الأول كان الدولار في لبنان قد ارتفع من 80 ألفا إلى 140 ألفا، أيّ أنه عليكم، وبعيداً عن الحسابات المملة ولكن البليغة، احتساب ضعف المبلغ تقريباً: أي حوالي عشرة ملايين ليرة كلفة حضور الطبق يومياً على الإفطار، وهو مبلغ يفوق غالبية معاشات اللبنانيين اليوم التي يبحث بأمر رفعها إلى ثمانية ملايين ليرة لبنانية.
بمعنى آخر، لم يعد "مؤشر جاط الفتوش" صالحاً في ظلّ الارتفاع الساعاتي، بدلاً من اليومي، لسعر صرف الدولار. وهذا الأخير، بلغت نسبة متابعي صعوده الدراماتيكي، أو بالأحرى انهيار الليرة اللبنانية، كونه ثابتا لكن الليرة هي التي تهوي، أكثر بكثير من متابعي المسلسلات الرمضانية.
ها هو يحلق ويطير مبتعداً عن متناول أيدينا، كما فعلت "ريميديوس" الجميلة الخارقة في رواية غابريال غارسيا ماركيز "مائة عام من العزلة"، ساحباً خلفه معظم الأطباق الغنية منها والفقيرة، عن موائد الصائمين.
ما الذي تبقى لإفطار الفقراء؟ حتى أبسط المآكل كالبطاطا والسلطة لم تعد بمتناولهم. ما الذي يفطرون عليه؟ يقال دائماً في العبرة من الصيام إنّ هذه الفريضة هي لكي يحسّ الأغنياء بفقر الفقراء. فإن صح ذلك، لا بدّ من السؤال: إذاً لماذا يصوم الفقير؟ هل لكي يحسّ بغنى الأغنياء؟
فالصبر على الجوع وقلّة الحيلة ليسا بحاجة لشهر في السنة كتمرين عندما يكون الفقير صائماً بقوة الأمر الواقع طوال السنة. ربما يصوم الفقراء كنوع من المساواة بينهم وبين الآخرين حين لا يتناولون إلا وجبة واحدة بحجة الشهر الفضيل. أما عندما يحل العيد؟ فما الذي يعنيه غير تذكيرهم بقصر ذات اليد؟
ما يعيشه فقراء لبنان لا يقتصر على دراما ارتفاع كلفة صحن الفتوش، فهذا المؤشر لم يعد صالحاً لقياس قدرة شرائية لم تعد أصلاً موجودة
تروي إحدى الزميلات أنّ سيدة وقفت بباب الجزار وسألته إن كان بإمكانه أن يبيعها "شوية لحمة بخمسة وعشرين ألف ليرة"! نعم؟ 25 ألف ليرة؟ كيف تجرأت هذه السيدة أن تطلب هذا من الجزار حين يكون الدولار يساوي مائة ألف ليرة، وثمن كيلوغرام اللحم مليون أو مليونان؟ يهمّ الرجل بالردّ ساخراً منها، لكن سيدة أخرى كانت تقف منتظرة طلبيتها تغمزه أن يضع لها بعض اللحم مما اشترته هي. عزة نفس السيدة منعتها من طلب أي شيء بالمجان. هي طلبت مقابل ما معها بعض اللحم، وإلا لاضطرت ربما لطبخة بحص.
عندما كانت تُروى قصة التعبير الرائج "طبخة بحص" عن سيدة كانت تحاول أن تصبّر أبناءها الجائعين بقدر يغلي فيه الماء مع بعض الحصى، كنت أظن أنها مبالغة، شأنها في ذلك، كما اعتقدت، شأن تلك القصص التي تُروى عن تضحيات الأمهات، وهي قصص تميل إلى الدراما عادة. لكني اليوم فهمت. نعم، هناك طبخة بحص، وأمامي اليوم أكثر من مثال.
لكن طبخة البحص الأهم، كانت تلك التي عللنا بها حاكم مصرف لبنان لأكثر من عقدين بصراخه الثابت عن ثبات الليرة اللبنانية وإنها "بخير"، وها هي تنتهي بإدراكنا لقعر القدر، وللخديعة غير الحنونة هذه المرّة التي ذهب ضحيتها الشعب اللبناني بأكمله إلا قلّة قليلة استطاعت تهريب أموالها.
ما يعيشه فقراء لبنان لا يقتصر على دراما ارتفاع كلفة صحن الفتوش، فهذا المؤشر لم يعد صالحاً لقياس قدرة شرائية لم تعد أصلاً موجودة.
وهنا تتحول دراما ارتفاع كلفة هذا الطبق، إلى تراجيديا عدم القدرة حتى على تأمين أي إفطار مهما كان بسيطاً، طوال الشهر الكريم. أو لنكتفي بالقول طوال الشهر، من دون صفات إضافية.