حين تحزنُ الأمهات السوريات
"من هنا حتى المقبرة
كلُّ شيءٍ أزرق وذهبي وواضح
الموتى على بعد أربع خطوات
والأحياء على بعد أربع خطوات
هناك حيث كلّ شيءٍ واضح وأزرق وذهبي
يكبر ابني بعيداً عني".
( ميغيل هيرنانديت)
فقدت لينا ابنها في رحلة اللجوء إلى أوروبا. غرق في البحر!
يبدو رحيله خبراً عادياً ويوميّاً في زحمةِ الموت السوري، لكنّها تُحيي حضوره بزراعةِ الزيتون، حيث زرعت حتى اليوم مائة وثمانين شجرة زيتون في أراضي الأصدقاء والأقرباء. دفعت ثمن الغراس، وتدفع تكاليف العناية بها وكأنّها كلّها، ابنها الراحل. ليس للأشجار اسم، يتعاملُ معها ملّاكها الجدد وكأنّها روح هائمة في أماكن متعدّدة ومتفرّقة من الكرة الأرضيّة. روحٌ ترومُ العودة إلى حضنِ أمّها، إلى غرفتها المُزدحمة بالصور وبالعناوين الجديدة لغراسِ زيتونٍ جديدة.
حتى في مواجهة الموت المبكّر، نختارُ شجرةً معمَّرة، ونحن نظنّ أنّنا نحتالُ على الغياب بأغصانٍ تتجدّد وجذورٍ تمتدّ وثمار تعبر الحلوق بغصّةٍ وبدعواتٍ حنونة.
حين تحزن الأمهات السوريات تغيبُ الشمس عن قلوبهن، تغمر العتمة تفاصيل الحكايات. كلُّ أمٍّ منهن تلوكُ الغيابَ لقمة مرّة، غير مُستساغة، تبصقها هناك وتطمرها بذرةً لينبتَ من الغياب غصنٌ غضّ ونحيل، يتمايل مع نسماتِ الهواء، يخافُ العراء والبرد والوحدة، لكنّه يصمد ويبقى واقفاً مُتنعّماً بالحياة، يبزغ نوره من جديد، حتى يغدو شجرةً من حكاياتٍ وذكرياتٍ وصور وأغانٍ.
من الطين نُعيد تشكيل الحياة وتشكيل الحكاية بقوّة استحضار الغياب
لجأتْ سلمى إلى النحتِ لتتناسى رحيل ابنها الذي زلزل حياتها وألجم لسانها عن القول لعامين كاملين. لم تستحضرْ صورته في أيّ منحوتةٍ، لكن رائحة الغياب كانت تفوح من أثناء الطين، وفي المخيّلة التي لا تنفك تنحت منحوتاتٍ مكوّرة على ذاتها، مكوّرة على حضنِ الحياة المفقود إلى الأبد. يمكننا أن نسمّي كلّ منحوتةٍ باسم ابن سلمى، لكنّها ترفض ذلك بشدّة، تعلن: اسمه له وحده، حضوره بهي ومُكتمل حتى في الغياب، رغم أنف الطين العصي على تشكيل صورته، ورغم أنف الحرب بحكاياتها وصورها وأغنياتها.
حين تحزن الأمهات السوريات يفيض الحزن وتنمو له أجنحة تحلّق عالياً حيث لا نحيب ولا توجّع. ثمّ يحضر الفن، فينشغلُ الخيال ببناءِ مساحاتٍ مُورقة من الإبداع، حيث تولد الأفكار من عبقريّةِ الحزن وتتناغم مع الوجد، وكأنّه مجرّد اختلاف ما بين مساحتي الحضور والغياب.
في كلِّ عام، وفي ذكرى رحيله، تطلق سلمى معرضاً للمنحوتات، يستعيد حضورَ ابنها، وكأنّنا خُلقنا من طينٍ، ومن الطين نُعيد تشكيل الحياة وتشكيل الحكاية بقوّة استحضار الغياب.
حين تحزن الأمّهات السوريّات ينهض الغياب ليُسكتَ بطش الأقوياء
لأنّهم يفرضون علينا إنكار الغياب ليطووا صفحات الغائبين كلّهم، يراكمون حضور الغياب كشاهد على مقتلةٍ ضاقت بقوّة الحضور والبقاء، يُراكمون الموت علّنا نخاف على الباقين أكثر، فنصمت. حين تحزن السوريات ينهض الغياب ليُسكتَ بطشَ الأقوياء.
الحزنُ لغةٌ عليا تتجاوز البوح وأنين الشكوى، لا تقيس الأمهات السوريات أحزانهن بمقاييس غيرهن، ليس لأنّ الحزن مختلف بين أمٍّ وأخرى، وليس لكونه لا يمتلك قاعدة شكلية ثابتة وتفاصيل مكرّرة، بل لأنّه بذرة تنبت في أرضٍ ما، فإمّا أن تقتل أصحابها وتبعثر قصص ضحاياها في مهبِّ الغياب والنسيان، وإمّا أن تعطيهم القوّة لتمنح للحياة أسساً وأعمدة تستند على قّوة الحب وقوّة الإصرار وقوّة الذاكرة.
في حكاياتٍ تعبر طول البلاد وعرضها، تبدأ الأمهات بتلاوةِ أحزانهن بابتسامةٍ واسعة، لكن الضحكة العابرة تتحوّل إلى مقدّمةٍ من انهمار الأحزان، تضيق الشفتان، وتهتزّ الأوداج، ويطوف الحزن على امتدادِ مساحاتِ البلاد، لكنّ حزن الأمّهات السوريّات البهيّات يفيض بنورٍ يجلّله العناد على إحياء حضورِ الغائبين.
لا تصنع الأمهات السوريات من الحزن مواسم للاحتفال، بل يمسحن عنق الحكايات بوجدٍ جليل وإبداعٍ يليق بالحبِّ الغامر للأبناء.