حياتي في الكتابة

27 يوليو 2024
+ الخط -

 

يقول عالم الفيزياء الإنكليزي ستيفن هوكينج: "ما الذي يُشعِلُ النارَ في المعادلات الرياضية، ويجعلُ الكونَ موصوفاً بها؟".

وينطبق الأمر نفسه على الكلمات؛ فللكلمات سحرها، إذ تعبّر، ليس عن الكون فقط، بل عمّا هو أصعب من وصف الكون نفسه؛ إنها المشاعر التي تجيش بها النفس البشرية، مشاعر متنوعة من حب وغضب وحنق وحزن وأمل و... إلخ.

بحيث نتساءل: كيف تصبح هذه المشاعر كلماتٍ مرقومةً على بياض الورقة؟!

هنا تكمن روعة الكلمات وسحرها..

لذا لم يكن من قبيل الصدف أن تكون الأديان السماوية الكبرى - الإسلام والمسيحية واليهودية - ذات كتب مقدسة..

***

كتبتُ ذات مرة: "الكتابة هي تنفّسُ الصُّعَداء على بياض الورقة".

فما أروعها من لحظات عندما تخطر بذهنك الأفكار أو تجيش بنفسك المشاعر، و(تستطيع) تدوينها على بياض الورقة، عندها تحس كأنك امتلكت مفتاح العوالم السحرية، بل حللتْ (اللغز وراء السطور)، كما عنون د. أحمد خالد توفيق كتابه عن فن الكتابة..

لكن ماذا لو لم تستطع تدوين تلكمُ الأفكار أو المشاعر على بياض الورقة؟

نحن نعلم بالبديهة، أنّ كل الناس لديهم أفكار ومشاعر، غير أنّ الكاتب هو مَنْ يستطيع أن يحوّلها إلى عمل مقروء، أو ممّنْ يُتَوقّع منه ذلك!

فإذا لم يقم بذلك، ولو بعد حين، وأصابته سدّة الكاتب Writers' block، فيكون كمَنْ يبكي مِنْ غير دموع!

ويصبح في وضع لا يُحسد عليه؛ يريد أن يكتب، لكن لا تطاوعه يده، ولا تخط ما يريده تماماً، بل خربشات لا يرضاها..

*** 

لا يختار المرء أن يكون كاتباً، إنما يجد نفسه كذلك، ويكون أشبه بمتجولٍ ساح في الأرض هائماً على وجهه حتى وجد نفسه فجأةً أمام مغارة علي بابا!

وباب هذه المغارة (الكتابة) هو القراءة؛ فأنت أولاً قارئ ثم تصير بعدها كاتباً، وربما لا تصبح كذلك!

إذ لا كتابة إلا بعد كم هائل من قراءة، فالقراءة هي المعين السخي على الكتابة، وليس كل مَنْ يقرأ يجب أن يكتب، لكن كل مَنْ يكتب يجب أن يقرأ، بل ويستمر في القراءة!

عن نفسي، لم أكتب إلا متأخراً عن قراءاتي، فقد بدأتُ الكتابة بعد تخرجي من الجامعة عام 2000م.

هل الكتابة سهلة؟

إذا كنا نتحدث عن الكتابة، أي كتابة كيفما أتفق، فهي سهلة، إلا أنّ الكتابة الممتعة والبديعة التي تجعل القارئ شغوفاً بما يخطه هذا الكاتب، لن تكون سهلة، لأنها عملية (ولادة) متعسرة!  

يقول محمود درويش:

الكتابةُ جَرْوٌ صغيرٌ يَعَضُّ العَدَمْ

الكتابةُ تجرَحُ من دون دَمْ.

عن نفسي، فبعد هذه السنوات في محراب الكتابة، أجدني عندما أكتب ما أزال أنظر إلى صفحة الورقة الخالية بقلق، ولا أتجاسر على أن أخط حرفاً إلا بعد استجماع زمام نفسي، لأني أرى الكتابة - أي كتابة - مسؤولية؛ فأنت عندما تذيّل اسمك على ورقة ما، يعني أنك مسؤول عمّا كتبته.

كم من الخربشات التي نقرأها، والتي يصرّ أصحابُها على أنهم يكتبون، فكل هذا الكم الهائل من الخربشات يجعلك تواصل القراءة ثم القراءة حتى لا تخربش!

قال الشاعر عبد الله البردّوني:

إنْ تعاطى فنَّ الكتابـةِ ناءٍ ... عن حماها، يُدمي الوريقات خمشا!

(شطرُ البيت في الأصل: أو تعاطى فنَّ... إلخ، وأنا غيّرتُه إلى (إنْ)، لأنه بـ(أو) مرتبطة بالبيت السابق).

وما أكثر الذين أدمت خربشاتُهم قلوبَنا قبل الأوراق، في زمان الفيس والتويتر وغيرهما التي جعلت من كل فرد كاتباً، لكنْ قليلٌ من كتابنا هم المبدعون!

لمَنْ تكتب؟

أنا أكتب في الأصل لنفسي!

فالكتابة صدى النفس أولاً..

وكذلك أكتب، كما يقول الإعلامي عارف حجاوي: "كي أتسلى لا غير، وكي أجد مَنْ يستمتع بها مثلي فنتسلى معاً"..

نحن نعلم بالبديهة، أنّ كل الناس لديهم أفكار ومشاعر، غير أنّ الكاتب هو مَنْ يستطيع أن يحوّلها إلى عمل مقروء، أو ممّنْ يُتَوقّع منه ذلك!

بيد أني أكتب لأني أريد أن أكتب، بغض عن النشر من عدمه، فليس كل ما يُكتب يجب أن يُنشر، لكن على الجهة الأخرى، إن وجود فرصة للنشر تدفع الكاتب للاستمرار في الكتابة، لعلمه أنّ هناك مَنْ يريد أن ينشر له..

وكذلك ليس الكاتب معزولاً عن مجتمعه الذي يعيش فيه، فمن المفترض أن تكون لكتاباته صدى في مجتمعه، ولو بعد حين، فالكتابة حوار بين الكاتب والمتلقي، وهما حلقتان تصنعان الدائرة الكهربائية التي يجب أن تُقفل لكي يسري التيار الكهربائي ويضيء المصباح؛ فلا أحد يكتب لنفسه ويكتفي بذلك فقط، بل لا بد من متلقٍ للكلمات، حتى لا تصبح صوتاً بلا صدى..  

ما هي طقوسك أثناء الكتابة؟

ليس هناك طقوس ولاهم يحزنون، أنا أكتبُ عندما أجد في نفسي رغبة في الكتابة، وقد تسبق هذه الرغبة فترة زمنية قد تطول أو تقصر (حسب نوع الموضوع) من الكمون، أستجمع فيها أفكاري حول الموضوع الذي أريد الكتابة عنه، وربما أحتاج أن أقرأ حول الموضوع عندما أجد نفسي غير ملمٍ به الإلمام الذي يؤهلني للكتابة جيداً.

يهمني بعد كتابة المقالة - من أي نوع - المراجعة، مراجعة الصياغة، وأسأل نفسي: هل هذه الجملة ذات صياغة عربية سليمة؟

أنا هنا لا أقصد قواعد النحو أو الإملاء أو علامات الترقيم، لأن هذه أدوات الكاتب التي يجب أن يتقنها، بل أقصد الصياغة اللغوية التي تجعل الكلمات متناسقة مع بعضها؛ فهذا الفعل لا يأتي بعده الحرف الفلاني، وهذه اللفظة هناك ما هو أكثر تعبيراً منها، وهكذا.. فأنا أشتغل بذلك كثيراً، خصوصاً في الكتابة الأدبية.. 

هل تكتب بخطة معينة، أم مجرد مقالات متفرقة؟

الواقع، من هذا وذاك!

أنا مؤمن بمقولة الشاعر البردوني: "فلسفتي عن المقالة: عندي أن المقالة الحقيقية هي ما تشكل نواة كتاب أو مشروع كتاب، وكلّ ما يكتبها هو المزيد من التفاصيل على أساسها والإكثار من بسط الإجمال". (قضايا يمنية، ص7). 

لكن قد تكتب استجابة لحادثة أو حدث أثّر فيك، لم يكن ضمن خطتك التي رسمتها لصناعة كتاب ما..

وقد لاحظت أنَّ كتّاب الجيل الماضي كانوا يجمعون من مقالاتهم المتفرقة ما يكّون كتاباً، أمثال: أنيس منصور ومحمد حسنين هيكل، وقدوتي في الكتابة الدكتور مصطفى محمود، فكتيباته صغيرة الحجم (بمعدل 13-14 مقالة)، إذ كانت تجميعاً مما نشره في الصحف، وتكون أخلاطاً لا موضوع واحد يجمعها، لكن لديه كتيبات حول موضوع واحد مثل: لغز الحياة ولغز الموت والأحلام والشفاعة... وغيرها.

وأنا أسير على هذه الخطى.

ماذا عن توثيق مراجع المقالة؟

يعتمد التوثيق على نوع المقالة ومكان نشرها؛ فالمقالة الصحافية يكون التوثيق في ثنايا النص كالإشارة إلى المرجع المأخوذ منه المعلومة مع الصفحة بطريقة APA، أو بدون الصفحة!

أما المقالة البحثية، فضمن قواعد البحث العلمي المتعارف عليها..

شخصياً، أفضّل التوثيق، لأنه يعطي مصداقية للمكتوب..

هل تفضّل الكتاب الكبير أم الصغير الحجم؟

فلسفتي في الكتاب هي: "إن الكتاب الكبير شر كبير" كما نقل راسل في حكمة الغرب (ج1/ ص 13) عن الشاعر الإسكندري كاليما خوس؛ فكتاب كبير الحجم لم يعد مناسباً في هذا الزمان الذي أسميه، كما عنونتُ أحد كتبي الإلكترونية (العيش في زمان السندوتش)، بل كتيبات على طريقة د. مصطفى محمود.

إذ لم يعد هناك متسع من الوقت لإنسان اليوم كي يقرأ كتاباً مكوناً من صفحات تفوق الـ500 صفحة، لكنّ كتاباً صغير الحجم يمكن قراءته في وقت قصير، وكذا سيكون سعره مناسباً لكل الطبقات، ويمكن اعتباره المفتاح لمَنْ أراد التوسع بعد ذلك في موضوع ذاك الكتيب..

اليوم هناك الرواية القصيرة novella التي تكون أطول من القصة القصيرة وأقصر من الرواية، وتتراوح صفحاتها من 50 - 100 صفحة.

على ذكر الكتاب الإلكتروني، أرى كل منشورك كتباً إلكترونية، لماذا؟

لسببين:

الأول: حاولتُ أن أنشر أعمالي ورقياً؛ فطرقتُ أبواب دور النشر عبر النت منذ 2011م، لكنني لم أوفّق في نشر ما بين يدي من مسودات الكتب؛ إذ طرقتُ أبواب دور نشر محلية كمكتبة خالد بن الوليد في صنعاء في عام 2011م، وعربية كدار غراب المصرية في عام 2015م، وراسلتُ دار هنداوي الإمارتية في مايو 2021م، التي رفضت نشر مسودة كتيبي (مذكرات كاتب علمي). 

لكن دار حروف منثورة للنشر الإلكتروني نشرتْ أغلب كتيباتي إلكترونياً بين عامي 2014م و 2016م (إذ نشرتْ لي 12 كتيباً)، وكذلك نشرتْ مكتبة العبيكان الرقمية عدداً من كتيباتي منذ أواخر مارس 2016م، وهناك كتاب (فضاء العلم)، الذي صدر إلكترونياً عن دار نور - ألمانيا في بداية مارس 2017م.

الثاني: سيكون المستقبل للكتاب الإلكتروني؛ فقد وجدتُ لدى أصدقائي الذين نشروا أعمالهم ورقياً، رغبة في تحويل أعمالهم إلى كتب إلكترونية، ما يتيح لها الانتشار بشكل أوسع.

وهناك مَنْ نشروا كتبهم إلكترونياً، ثم وجدت طريقها لتصبح ورقية، منها كتب الفيزياء للكويتي د. يوسف البناي، على سبيل المثال.

وهكذا دارت عجلة الكتابة عندي، وها أنا ما أزال في محرابها حتى اليوم..

***

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري