حكاياتنا مع المشاهير
سلوى زكزك
يموتُ أحد المشاهير، فتنصرفُ الأقلام للكتابة عنه، وفجأة نكتشف أنّه كان صديقَ الجميع، خاصّة بعد أن يبدأ البعض بإشهارِ صورٍ تجمعهم بالراحل، وكأنّهم يشهرون سيفاً يحسم الجدل حول طبيعة العلاقة معه.
تنساق الغالبيّة مع الحشود الناعيّة والراثيّة، وتختلف حماوةُ نصوص النعي، ويتعالى صوتُ الفقد إلى درجةِ أنّنا نظنّ أنّه مفروض علينا تقديم العزاء شخصياً لكلِّ من ينعى الفقيد. وهنا، يتوسّع الخاص ليقتحم العام ويطالبنا بالإنصات إلى حكايته وحده مع الفقيد! ولا يخلو المشهد من بعض المزايداتِ العاطفيّة لإثباتِ حصريّة علاقة الراحل مع كاتب الرثاء.
يتحوّل المشاهير، وخاصّة الفنانين والكتّاب مع طولِ وقتِ القراءة لهم أو مشاهدتهم، إلى شركاء لنا في المساحةِ التعبيريّة اليوميّة، أو في الحالةِ الثقافيّة بشكلٍ عام. لكن تلك المساحة التي يخلقها التواصل عن بعد عبر القراءة أو المشاهدة هي فعليًا شكل من أشكال الرغبويّة بأن نصدّق، فعليًا، أنّهم يخترقون أوراق كتبهم، يخترقون الشاشات أو اللوحات، ليجلسوا معنا ويشاركونا حديثًا عابرًا ربّما، لكنه حديث حقيقي، نحبّه ويُفرحنا، يمنحنا ثقة بأنفسنا وحالة من الرضا الاستعلائي بأنّنا قريبون جدًّا وفعليًا منهم.
يمنحنا هذا اللقاء العابر ثقة كبيرة رغم علو أقدام هؤلاء المشاهير، وكأنّنا نقول نحن هنا! إنّ قوّة الاستحضار، وربّما الإصرار على أنّنا كنّا هناك معهم، هي شكل من أشكال التعبير عن حجم التقدير وحجم الفقد وحجم التماهي مع منتجهم الفني، وكأنّه يبني علاقة معهم رغم طول المسافات الماديّة والعلاقاتيّة التي تفصلنا عنهم.
يتوسّع الخاص ليقتحم العام ويطالبنا بالإنصات إلى حكايته وحده
يبدو الانهماك بتثبيت علاقة مُفترضة مدفوعًا بالحالة الراهنة التي تشعرنا بقطعٍ فعليٍ عميقٍ ومؤثّر، لكنه مؤثّر فينا فقط، موجع لنا فقط، لكن حان وقته، بل يجب استغلال هذا الوقت تحديدًا، وقت الرحيل، لأنّ فواته يعني تفويت تثبيت تلك الصلة التي نسعى لجعلها حقيقيّة وحميميّة. هي الرغبة بتقدير ذواتنا المهجورة، والمبعدة، قسرًا أو طوعًا، تواضعًا أو خوفًا من دائرة الضوء والشهرة.
تنساق الغالبية مع الترند، تُدلي بآراء لا محلّ لها من الإعراب حاليًا لأنّها بلا وزن يُذكر، وبلا أثر أو جذر لغوي، يستغل البعض الموت ليشتموا، لينتقموا ولو عبر كلماتٍ هزيلةٍ ومذعورة، تسود الشماتة كحالةٍ شبه عامة، حالة قطيعيّة لكنّها مرضية، مشجّعة على بذل الكلماتِ وإعلان المواقف حيالها.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، أنّنا وحين نشاهد لوحة أو نقرأ كتابة أو نتابع مشهدًا لفنّان أو كاتب، مع من نبني العلاقة الحالية؟ مع الكاتب أم مع الكتاب؟ مع المشهد وتفاصيله أم مع الممثّل؟ إنّها أسئلة طبيعيّة ترسم حدود العلاقات بين كافة الأطراف، لكنها تنتج سؤالًا أكثر تحديدًا، وأكثر إشكاليّة، وهو: هل تلك العلاقة الطارئة أو المؤقتّة، وربّما الدائمة، لكنّها فرديّة ومُخزّنة بالذاكرة، كافية لتشكّل علاقة حقيقيّة؟ لا أحد يمتلك إجابة حاسمة، لكن من حقِّ الجميع الاندماج في المشهد العام، حزنًا وفرحًا، مهما اختلف شكل التعبير.
يعتبر البعض تلك الحالات "حالة إحماء ثوري"، "حشد بلا عقل"، ويصفه البعض الآخر بأنّه "مؤقت، غير حقيقي، وفاقد للسياق والمعنى...".
على الرغم من كلِّ النظريّات التي تدرس السلوك العام في لحظاتٍ فارقة كالرحيل، وعلى الرغم من كلِّ الاستعلاء واستنكار أن يعلن أهل الهامش آراءهم، وأن يشاركوا في الرثاء والنقد، وحتى في الشماتة، لكن المنتج الفنّي ليس ملكًا لعليّة القوم فقط، حيث ينشر الكتّاب كتبهم ليتداولها الناس، وكذلك اللوحات والسينما والمسرح والتلفزيون.. العلاقة هنا تبادليّة بكلّ ما في الكلمة من معنى، ومن فعل أيضا.
يأتي موت المشاهير ليبرز شكلًا من أشكال العلاقة غير المتساوية، تبرز بدورها الهوّة العميقة بين الناس المستهلكين أو المنشغلين بالآداب والفنون وبين الآخر المشهور الذي يؤسّس عبر كتابته وفنّه لعلاقة لا يمكن لأحد تحجيمها أو رسم حدودها أبدًا.