حفلة "التيس" وسورية المفيدة
في أحد مشاهد رواية "حفلة التيس" للكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا، يصف ديكتاتور الدومينكان رافائيل تروخيو نفسه بأنّه "قادر على تحويل الماء إلى نبيذ، وعلى تكثير الخبز، إذا ما خَطَرَ ذلك لخصيتيه".
وعلى نفس المنوال، سبق للرئيس الراحل حافظ الأسد أنّ وعد السوريين بالقول: "لا أريد لأحد أن يسكت عن الخطأ، فالوطن ملك الجميع"، وكانت الحصيلة أنّ ثمانية وثمانين ألف سوري ماتوا تحت التعذيب، كما وعد السوريين بأن تكون الجولان وسط سورية، فضاعت سورية وبقيت الجولان مكانها!
بدوره، قدّم ابنه الوريث بشار الأسد وعوداً كثيرة، من بينها "سورية المفيدة" التي أطلقها عام 2015، ويعني بذلك المحافظات الست: اللاذقية، طرطوس، دمشق، ريف دمشق، حمص وحماة، مؤكداً أنّه سيدافع عنها بكلّ ما يملك من قوة، بما يعني اعتبار بقية المحافظات السورية الأخرى أقلّ استراتيجية لديه، ولا أهمية لها. ليس ذلك فحسب، وإنّما يجب أن تكون وظيفة هذه المحافظات بأرضها وخيراتها وأهلها في خدمة هذه "المملكة الجديدة".
سورية المفيدة هذه، وفقًا لوعده، ستكون متناغمة بعضها مع بعض، على قلب واحد، لن يُعكِّر صفاء هذه الجنة ونعيمها شيئاً، بعد أن "كسِبَت مجتمعاً صحياً متجانساً جرّاء سنوات الحرب". أمّا بقية السوريين غير المتجانسين، فقد تمّ التخلُّص منهم، إمّا بالقتل أو الاعتقال أو التشريد، باعتبارهم يُشكِّلون عبئاً ثقيلاً على الدولة والمجتمع، وبالتالي هؤلاء لم يكونوا سوريين حقيقيين، لأنّ سورية وفق قوله: "ليست لمن يحمل جواز سفرها، وإنما لمن يدافع عنها".
سبق للأسد أن وعد السوريين بأن تكون الجولان وسط سورية، فضاعت سورية وبقيت الجولان مكانها!
وعليه، فإنّ تكريس هذه الوظيفة للسويداء وبقية المحافظات غير المفيدة، لخدمة تلك الدوحة الجديدة، هو ما عَمِلت عليه السلطة منذ ذلك الحين، وإلا ماذا تعني مسألة أن يتوّجه المرء شمالاً خارج نطاق محافظتي السويداء ودرعا، حتى يجد كلّ مظاهر تطبيق النظام، وكلّ مؤسسات الدولة قائمة، من شرطة إلى الخدمات العامة، إلى مؤسسة القضاء، وتوّفر مظاهر الأمن والأمان؟
مقابل ذلك، عُمل بكلّ دأبٍ وإصرار على تخريب البنية المجتمعية في هذه المحافظات، خصوصاً السويداء، من خلال ما قامت به بعض الأجهزة الأمنية من دعم ومساندة لعصابات القتل والخطف والتشليح وتصنيع الكبتاغون وترويجه وتسويقه، وهو ما تكشّف حينما سيطر أهالي السويداء، في يوليو/تموز 2022، على مقر إحدى المليشيات الموالية للنظام، ليُعثر على أكياس حبوب الكبتاغون، وآلة لضغط الحبوب، بالإضافة إلى بطاقة هوية الجيش السوري الخاصة بشركة زعيم تلك المليشيا.
إضافة إلى ذلك، يتساءل المرء: ماذا يعني قيام الطائرات الأردنية، بين كلّ فترة وأخرى، بقصف البيوت الآمنة فوق أصحابها في ريف السويداء الجنوبي، في ظلّ صمتٍ مطبق من جانب السلطة السورية، وتنديدٍ خجول جاء بعد عدّة أيام فقط؟ ما يشير في نهاية المطاف إلى وجود تواطؤ من جانب السلطة السورية، من شأنه العمل على إشغال أهالي السويداء وحرفهم عمّا يقومون به من احتجاجات يومية تطالب بإسقاط النظام، خصوصاً بعد أن عجزت السلطة على مدار الأشهر الماضية من اختراق ساحة الكرامة التي تحوّلت رمزاً لمقاومة الاستبداد.
فقدت الحكومة السورية السيطرة على ما يقارب نصف جغرافية سورية، ومعها سلتها الغذائية ومعظم ثرواتها الوطنية
أمّا السبب الموجب لهذه الوظيفة الجديدة للسويداء وبقية المحافظات الأخرى، فهو أنّ "المملكة المفيدة" لم يبق لديها ما يغطي نفقاتها الضخمة والكبيرة، بعد أن فقدت سورية ما يقارب نصف جغرافيتها، ومعها سلتها الغذائية ومعظم ثرواتها الوطنية، في وقت أصبحت فيه الحدود السورية الدولية في أيدي الأجانب بنسبة 80%. كذلك الحال بالنسبة للفوسفات السوري، فبعد أن كانت سورية تحتل المركزين الرابع أو الخامس في إنتاجه عالمياً، تخسر اليوم ما يتراوح بين 70% و75% من عائدات صادرات الفوسفات وميناء طرطوس، لصالح شريكها الروسي، خلال الخمسين عامًا المقبلة، كما ذكر المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية.
بناءً على ذلك، يمكن تفّهم هذا الإصرار على صناعة هذه السموم القاتلة وترويجها من قبل بعض القائمين على السلطة، من أجل التعويض عن تلك الخسائر وضمان تغطية النفقات الكبيرة، رغم قيام المجتمعين الإقليمي والدولي بالتنديد بهذه الصناعة وفرض العقوبات على بعض المسؤولين فيها، وذلك نظراً لما تدره من أموال طائلة، عدا عن استخدامها سلاحاً سياسياً وأداة ضغط لمواجهة الدول العربية، وهو ما نجح بعودة سورية إلى جامعة الدول العربية بعد مقاطعة استمرت سنوات، لتتعهد السلطة السورية "باتخاذ الخطوات اللازمة لإنهاء عمليات التهريب" عبر الحدود الأردنية والعراقية. ومن هنا يمكن فهم أسباب إصرار السلطة على تحويل السويداء إلى سوق لتصريف الكبتاغون.
ختامًا، في كتابها "عشرة أعوام مع حافظ الأسد"، تُشبِّه بثينة شعبان الأسد بيوسف العظمة، على اعتبار أنّهما واجها الاحتلال كبطلين، الأوّل قاد الجيش السوري ضد الفرنسيين، والثاني ضد الإسرائيليين (1967)، وأنّ كليهما رأى في الهزيمة فرصة ولادة جديدة لأمّة، لكنها لم تقل لنا أنّ تلك الولادة ستكون هي "سورية المفيدة"!